غيَّب الموت الفنان العملاق الملك “صلاح بن البادية” إثر علة لم تمهله طويلاً، ظل الفنان “صلاح بن البادية” يقدم الكثير والمفيد في مجال الفن وشنف أذان الشعب السوداني بحلو الغناء من أمثال (سال من شعرها الذهب وكلمة والأوصفوك ويا ملك وحُب الأديم) والكثير الكثير من حلو الغناء، ولا اظن أن أحداً من أبناء السودان لم يسحره غناء “ابن البادية” كبار وصغار ساسة وسياسيين نساء ورجال، وظلت أغانيه محفورة في ذاكرة الأمة السودانية، وهنا اذكر ونحن في الديمقراطية الثالثة كنا نتردد على مكتب النائب العام وقتها الدكتور “حسن الترابي” عدد من الصحفيين ومن صحف مختلفة بما فيها جريدة (الميدان) وخصص لنا الدكتور “الترابي” يومين في الأسبوع يقدم فيهما تصريحات واستفسارات الصحفيين، وحفظ تقريباً كل المجموعة التي كانت تتردد عليه آنذاك وكنت ضمن تلك المجموعة، ورغم أنني كنت أمثل صحيفة (الأيام) التي كان يصفها الدكتور “الترابي” بأنها شيوعية، ولكن لم يرفض الإدلاء لها بالتصريحات.. المهم تصل رسالته إلى الكافة عبر تلك الصحف، بعد انتهاء الديمقراطية الثالثة وذهب كل إلى سبيله، فلم أكن وقتها ضمن محرري الصحف التي في تلك الفترة فذهبت إلى المملكة العربية السعودية، ومكثت فيها ما يقارب الخمس سنوات متواصلة تقريباً، عدتُ بعدها والتحقتُ بصحيفة (السودان الحديث) بناءً على إصرار من الأخ “فتح الرحمن النحاس” رئيس التحرير وقتها، والأستاذ “عمر إسماعيل” سكرتير التحرير، واصلت العمل فيها، وفي أحد الأيام قدمت لي دعوة للمشاركة في العيد الوطني لدولة قطر، فذهبت فوجدت الدكتور “الترابي” ضمن المدعويين، وكانت الصلة بي وبه قد انقطعت منذ الديمقراطية الثالثة أو منذ مفارقته كرسي وزارة العدل النائب العام، وجدته يقف بعيداً من الناس، فلمحته فذهبت للسلام عليه، وأنا أمد له يدي فقلت له “صلاح حبيب” بابتسامته المعهودة رد علىَّ قائلاً: (أنت أنت بتتنسي).. ضحكت قلت ما شاء الله كمان بتحفظ الغناء، لقد كان الفنان “صلاح بن البادية” في وجدان وقلوب كل الأمة السودانية فقد ترك لنا إرثاً من الغناء الجيد، فلا اظن أن واحداً من أبناء الشعب السوداني لا يحفظ بيتاً أو قصيدة كاملة من أغانيه، لم نسمع منه إلا الكلام الجيد.. واذكر أن الاتحاد العام للطلبة السودانيين بالقاهرة وهو أول اتحاد يفوزه به الاتجاه الإسلامي في العام 1979 بعد أن صرع طلبة الاتحاد الاشتراكي الذي كان دائماً يتربع على عرش الاتحاد.. أذكر أن هذا الاتحاد وعقب فوزه نظم أول أسبوع ثقافي دعا إليه عدد من الفنانين من بينهم الراحل “صلاح بن البادية” والفنان “كمال ترباس”، والمسرحي “الفاضل سعيد”، والأستاذ صاحب الصور الشعبية “الطيب محمد الطيب”، والأديب “التجاني عامر”.. والدكتورة “سعاد الفاتح البدوي”.. قدم الفنان “صلاح بن البادية” كعادته أجمل الغناء وحظى بعدد كبير من الطلبة السودانيين والمصريين، بل طلبه طلاب الإسكندرية لإقامة حفل للطلبة هناك، رحل الأستاذ الفنان “صلاح” من دنيانا وقد ترك من خلفه سيرة عطرة وحب من الكل وستظل أعماله خالدة ومحفورة ومحفوظة في وجدان الأمة السودانية وهل ينسى الملك؟ وهل تنسى كل تلك الأعمال التي انتقاها بعناية؟ بالتأكيد ستظل أعماله خالدة يتوارثها جيل عن جيل، وهل يصدق أحد أن الشيخ الورع الراحل “حسن الترابي” يحفظ لـ”ابن البادية” تلك الكلمات: ننساك وأنت أنت بتتنسي.. رحم المولى عز وجل الفنان “صلاح بن البادية” بقدر ما قدم إلى هذا الوطن من أعمال ناصعة.