ماذا بعد؟!

أفقي ورأسي..!!

التحضر لا يكون باستيراد ثقافات الغير واستلاف أنماط حياتهم المتطورة.. لا يكفي أبداً أن نغادر مثلاً السكن الأفقي إلى الرأسي لمجرد المحاكاة أو حتى للحاجة الماسة .. قبل ذلك علينا التكيف مع الثقافة الرأسية والتخلي تدريجياً عن ماهو أفقي .. وهي مسألة ليست بالسهولة التي  يعتقدها  البعض ..
ظللت منذ عودتي الأخيرة إلى أرض الوطن أرقب حركة التعمير والبناء ولاحظت أن هناك اجتهادات واضحة تمثلها نماذج غاية في الروعة والجمال  ..وكنت دائماً أسأل ما إذا كانت هذه الأبنية الأسمنتية العالية تم تصميمها ضمن خرط تحمل توقيعاً سودانياً خالصاً أم أنها نسخ كربونية من مثيلات لها في دول أخرى تم استنباطها دون مراعاة للخصوصية والبيئة السودانية.. وكان واقع الحال يقول إن عدداً مقدراً منها ما هو إلا محاكاة للآخر المختلف وهي محاكاة تجني غالباً على أصحابها حين يكتشفون أن المسألة ليست بالسهولة التي كانوا يظنونها، وأن الممارسة العملية لاحقاً ستكشف لهم إشكالات حقيقية من الصعب التغلب عليها .
المزاج السوداني جلب على الأفق المفتوح والحيشان الممتدة لذلك هو يحتاج لبعض الوقت للتأقلم على العيش تحت الأسقف التي تحجب عنه لون السماء وأشعة الشمس والسكن داخل الغرف الضيقة والمتراصة وضمن مساحات تنحسر شيئاً فشيئاً.. وهي مسألة كما قلنا مقدور عليها مع مرور الوقت لكن هل يعقل أن نتناسى أموراً ضرورية أخرى كالمصاعد الكهربائية التي يندر وضعها ضمن خرائط البناء الرأسي خاصة في الأبراج التي بدأت تزدحم حول العاصمة دون تفهم واضح لأهمية هذه المصاعد والحاجة الماسة إليها وهو تجاهل معيب يحتاج إلى تدخل من الجهات المعنية بالشؤون الهندسية التي يفترض أن تلزم أصحاب العقارات التجارية بضرورة تضمين  المصاعد الكهربائية، وأن تكون عاملة بالفعل وليست مجرد ديكور ومن بعد ذلك يكتشف المشترون أو المستأجرون أن مصاعد أبنيتهم خارج الخدمة.
لقد استمعت لشكاوى أعداد مقدرة من الذين قاموا في السنوات الأخيرة بإيجار أو شراء شقق في طوابق عالية وحكوا لي عن معاناتهم بسبب عدم وجود مصاعد كهربائية علاوة على عدم تخصيص هذه البنايات لجراج أرضي يدخلون فيه سياراتهم بدلاً من إيقافها على قارعة الطريق .
البناء الرأسي له مطلوبات لابد من توفرها حيث لا يعقل أيضاً أن تكون هذه الأبنية العالية ضمن محيط للسكن الأفقي وما يعنيه ذلك من كشف لخصوصية الغير ولو ذهبنا في جولة للمناطق السكنية في ولاية الخرطوم سنرى العجب العجاب حين نكتشف أن الذي يجاور عمارة من طوابق متعددة هو بيوت أرضية ما زال أصحابها ينامون ليلاً في حيشان ويتجرأون على فضول من يرقبونهم من على نوافذ وبلكونات الشقق العالية.. وحيث لا يعقل أيضاً أن تبدو هذه اللوحة المعمارية مختلة الأركان وهي تزاوج بين السكنين الرأسي والأفقي في منطقة واحدة لتخلط الحابل بالنابل وتترك الحبل على القارب بدلاً من  الاتفاق على رؤية معمارية متجانسة تراعي الأبعاد الإنسانية والجمالية وتحترم خصوصية الغير.. ليس هذا فحسب فألوان طلاء البيوت السودانية الرأسي منها والأفقي ما زال متروكاً لذوق أصحابها بدلاً من توحيدها وحصرها في ألوان بعينها تمنح المنظر العام رونقاً وألقاً وهذا هو النظام المتبع في معظم الدول المتقدمة والمتحضرة.
ثقافة الانتقال من الأفقي للرأسي مثلما تحتاج لبعض الوقت تحتاج أيضاً إلى مزيد من الجهد على صعيد الإصحاح البيئي تحديداً فالأبنية ذات الطوابق المتعددة مأهولة بعشرات الأسر على عكس البيوت الأفقية المخصصة للأسرة الواحدة.. وذلك يتطلب اهتماما مضاعفا بالجوانب الصحية والبيئية للنظافة والتهوية الجيدة ووسائل مبتكرة للتخلص من الأوساخ والنفايات.. كذلك لابد من أنظمة صرف صحي متطورة تستوعب حالة الضغط العالي للأعداد المقدرة من السكان .
لكم هو مزعج أن تدخل إلى هذه الأبنية العالية فتجد سكانها يهتمون بنظافة الشقق ويتجاهلون نظافة السلالم والممرات التي هي خارج حدود ملكيتهم ، في مشهد ينم عن بعض الأنانية وربما الكثير من الإهمال وغالباً ما يكون السبب هو عدم اتفاقهم على تخصيص رسوم شهرية لعامل نظافة يقوم بالمهمة طالما أنهم عجزوا عن القيام بها وهذه القضية بدأنا نسمع عن سجالات حادة تقع داخل الأبنية الجديدة  بسببها مما يعني أن عقود الإيجار أو الشراء تحتاج بدورها إلى مراجعات وإشراف مباشر من الجهات المختصة لقناعتنا بأن تمدد السكن الرأسي ستترتب عليه مستقبلاً الكثير من التعقيدات والخلافات القانونية.

مشاركة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية