ودنوباوي التي عرفتها !!(3)
حركة التوثيق ضعيفة في السودان، فلا يوجد وزير أو مسؤول دوّن حياته أو حياة من حوله فتجارب الآخرين تستفيد منها الأجيال، ولذلك كلما كتب شخص عن الماضي وجدت تلك الكتابات صدى عند الناس. لذا حينما بدأت أكتب عن بعض الأحياء مثل ودنوباوي التي عرفتها خلال الحلقتين السابقتين كانت كتابة من الذاكرة اختزنت لفترة طويلة من الزمن ومعظمها خلال فترة الطفولة وما رسخ أيام الطفولة لن تمحوه الذاكرة أبداً، ثم جاءت فترة الصبا وما بعدها.. البعض عتب عليّ، خاصة الأسر الكبيرة بودنوباوي التي سقط اسمها في الحلقات السابقة، ليس عن قصد، ولكن حاولت استرجاع الذاكرة على أن تكون الكتابة بالشوارع الكبيرة، فالبداية كانت بشارع الدومة، وهو من الشوارع العريقة ولها تاريخ، وحتى هذا الشارع هناك بعض الأسماء سقطت سهواً، ومن ثم الانتقال لبقية الشوارع الأخرى، كشارع ود البصير، وبقية الشوارع التي لها تاريخ في المدينة. بالتأكيد لن ننسى أسرة والدنا “عوض صالح” واحد من كبار الأنصار، والذي سبق أن حكم عليه في الحوادث الشهيرة، ووالدنا “عبد اللطيف صالح” و”عبد الوهاب صالح” وهذه أسرة عريقة بودنوباوي فهو من كبار الأنصار الذين دافعوا عن الحزب والكيان بالنفس والمال، وما زالت الأسرة تسير على نفس النهج الذي اختطّه الآباء، فأبناء “عوض” و”عبد اللطيف” و”عبد الوهاب” جميعهم متمسكون بالكيان الأنصاري حتى “مأمون عوض صالح” الذي شق طريقه في الغناء بالعزف مع كبار الفنانين لم يعلم به الكثيرون، إلا قلّة ممن هم حوله، لأن ولوج أبناء الأنصار هذا المجال نادر، ومن دخله يعد من الشواذ في الأسرة، ورغماً عن ذلك فهو متمسك بأنصاريته وودنوباوي ضمت أسراً عريقة أيضاً أسرة الناظر، والناظر هذا هو والد الأستاذ “صادق عبد الله عبد الماجد” وتعد من الأسر المتداخلة مع الأنصار، علماً بأن شيخ صادق كان من كبار الإخوان المسلمين، فلم يعترض الأنصار عليه ولم يخرجوه من الحي، باعتباره اعتنق تياراً مخالفاً للأنصارية، فالجميع كانوا في محبة صادقة، ولم تكن هناك فوارق بين الناس.. معظم الأكل واحد، الصينية مكونة من ملاح واحد تقريباً، بإضافة سلطة ولكن كبار الأنصار كانوا يتجمعون مرة في الأسبوع، وأطلق عليه غداء الملازمين “الجمعة” من كل أسبوع وهذا اليوم بالنسبة لنا بمثابة يوم عيد، لما يحتويه اليوم من أصناف متعددة من الطعام والتحلية (البطيخ والموز والحلو والكنافة) ونسوان ودنوباوي أو أم درمان عموماً بارعات في الطعام خاصة المفروكة، البامية، الورق، السلج، الملوخية، حتى الويكة لها نكهة ومذاق خاص.. وفي هذا اليوم تتجمع معظم الأسر في المنزل الذي عليه غداء الجمعة حتى الذين غادروا ودنوباوي ورحلوا للثورات أو غيرها من المناطق الأخرى تتجمع الأسر عندهم وفي نهاية اليوم يبدأ الملازمون خاصة إذا كان من بينهم الإمام الصادق المهدي أو أحمد المهدي حتى نقد الله الكبير رحمة الله عليه، فتأتي نساء الأسرة ويسلم عليهم الإمام الصادق أو أحمد فرداً فرداً، وهذا السلام له أثر طيب في نفوسهن وفي نفوس الأطفال أيضاً، عندما يُقبّل الإمام رؤوس الأطفال فتظل تلك القبلة عالقة بالذاكرة إلى أن يصبح الطفل رجلاً كبيراً.
في ودنوباوي عدد من الأسر والبيوتات أمثال ناس العركي وحوش الفكي وناس شاخور والقرشاب والجبلاب أسرة الدكتور مرتضى ومؤمن والدكتور عبد الرحمن الغالي وأسرة صبر والعياشة ناس مهدي حمد وناس جابر جبارة وناس باب الله، وناس حوش ود الفكي، ولنسائهم محبة وطيبة في نفس كل واحد، فالتومة بت باب الرحيم رحمها الله، وصالح، وفضل، وولدها عوض وناس حوش ناصر “موسى ود نفاش”، وسلام نسائهم يشرح القلب ويدخل البهجة والمسرة مثل عاطفة ومعدوم حمد جبارة التي تلقاك منشرحة الأسارير، وكذلك شقيقاتها فاطمة ونعمات وإخوانهم عبد الرحمن وفتحي ومحمد وناس الجاك تاجر المواشي رحمة الله عليه كان أنصارياً يحرص دائماً على الراتب بمسجد السيد عبد الرحمن، ويأخذ من ماء الراتب في إناء لمنزله.
(نواصل).