في العام 1984 بدأت الالتحاق بصحيفة (الأيام) متعاوناً براتب قدره (75) جنيهاً، ولم يمضِ على عملي بـ(الأيام) أكثر من ثلاثة أشهر، كنت وقتها أحاول أن أثبت وجودي من خلال العمل المميز، فكنت أتنقل من وزارة إلى أخرى التقط منها الأخبار، وأثناء تحركي في تلك الوزارات وجدت أحد العاملين في السلك الدبلوماسي بالخارجية، ممن تربطنا به صلة القرابة والصداقة بالأسرة، فنبهني إلى أن هناك فرصاً للالتحاق بوزارة الخارجية، فقدم أوراقك وأنسى الباقي، ففعلاً تقدمت بأوراقي ضمن المتقدمين للجنة الاختيار، ولكن في يوم الامتحان كلفت بتغطية مؤتمر اقتصادي بقاعة الصداقة، فترددت هل أدخل الامتحان أم أغطي المؤتمر؟ فجال في خاطري وقتها أنني متخصص في مجال الصحافة، ثم إن المبلغ الذي أتقاضاه من الصحيفة أكبر من المبلغ الذي يتقاضاه الموظف في وزارة الخارجية، إذ إن مبلغ الخارجية كان (48) جنيهاً وأنا في بداية السلم الوظيفي في (الأيام) بأخذ (75) جنيهاً وما زلت متعاوناً، فتركت الالتحاق بالخارجية وفضلت العمل في مجالي الصحفي، ولكن من خلال العمل في الصحافة، وجدت أن المهنة بها عدد كبير غير متخصصين في مجال الإعلام، وكل من لم يجد فرصة في الوظيفة أو في تخصصه يلجأ إلى الصحافة، حتى أطلق عليها (مهنة من لا مهنة له)، وظلت الصحافة تستقبل جيوشاً ممن فقدوا وظائفهم بإنهاء الخدمة أو ممن أثرتهم المهنة وكانوا فيها من المبدعين.. وإلى اليوم الصحافة تستقبل أجيالاً كل فترة فمن أحبها وعشقها سيظل في دهاليزها ومن جاءها (طاشي) وظن أنه يمكن أن يعمل ما يريد من خلالها فهذا لن يصمد فيها كثيراً.. وهنا نلاحظ أن وزارة الخارجية أصبحت أقرب إلى العمل الصحفي فكل من انتهى من عمله في أي وزارة ولم تجد له الدولة وظيفة لجأت إلى وزارة الخارجية وألحقته بالعمل الدبلوماسي، فالعمل الدبلوماسي في ظني يحتاج إلى كوادر تدربت من بداية السلم الوظيفي محطة محطة إلى أن تصل إلى رتبة السفير، لأن العمل الدبلوماسي أي خطأ فيه يؤدي إلى كارثة بين الدول، ولذلك نلاحظ دائماً أن الدبلوماسيين حذرون جداً في تعاملهم مع المجتمع ومع الصحافة بالذات، وهنا أذكر أن الدكتور “حسين سليمان أبو صالح” حينما تولى رئاسة وزارة الخارجية، لم تكن العلاقة مع الدول العربية أو الأوروبية على ما يرام ووقتها كنت على موعد لحوار معه، فحضرت إلى الوزارة وجلست في استقبال الوزير ريثما يؤذن لي بالدخول إليه، وفجأة خرج غاضباً (يرغي ويزبد) وفي حالة من الثورة، ومعه الأستاذ “مهدي إبراهيم” يحاول أن يهدئ من روعه، وسمعته يقول: (نحن سنة كاملة نصلح فيها يجيء ده يخربه لينا بتصريح)، فشعرت أن هناك مشكلة كبيرة وقعت فيها البلاد بسبب تصريحات لم تكن في محلها.. وعلى الرغم من أن الدكتور “أبو صالح” لم يكن من كادر الوزارة، ولم يكن من الذين بدأوا العمل فيها من بداية السلم، ولكن من خلال العمل في المجال السياسي منحه خبرة كيفية التعامل في مثل هذه الحالات، فالعمل الدبلوماسي ليس محطة يستريح فيها الإنسان بعد أن أدى الوظيفة لعشرات السنين في مكان آخر، فيجب أن تنظر الدولة إلى وزارة الخارجية بأنها أشبه بالعمل الطبي، فمن لم يمارس مهنة الطب فلن يستطيع أن يجري عملية ناجحة، لذا يجب أن تبحث الدولة لكوادرها التي فارقت وظائفها عن أماكن أخرى، يقضون فيها باقي أيامهم بدلاً من زحم الخارجية بكوادر تم الاستغناء منهم في مواقع أخرى وحتى لا ينطبق على الخارجية مثل الصحافة (مهنة من لا مهنة له).