آسيا وأفريقيا
استمعت إلى قصيدة (آسيا وأفريقيا) التي صاغ كلماتها الأستاذ “تاج السر الحسن” وتمعنت في الكلمات بإصغاء شديد ومتابعة دقيقة مع الفنان الرائع “عبد الكريم الكابلي” – رد الله غربته ومتعه الله بالصحة والعافية – تعجبت لفتى في الثامنة عشرة من عمره، ولم يخرج من السودان يتحدث عن أندونيسيا والملايو وباندونق والجزائر، شاعر بهذا المستوى الرفيع يكتب كلمات لا يكتبها خريجو الجامعات الآن، وهذا يدل على أن مستوى الشعراء في السودان في الماضي كانوا قد رضعوا من أمهات الكتب التي منحتهم ذخيرة ومفردات ساهمت في تجليهم بهذا المستوى من الكتابة الأدبية والشعرية الرفيعة.
إن قصيدة (آسيا وأفريقيا) لو وضعت مع كثير من القصائد التي صاغها الشعراء العرب، “المتنبئ” و”حافظ” وغيرهما لاحتلت مكاناً رفيعاً بين قصائدهما التي انتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، ولكن الشعراء السودانيين ولما لهم من قدرة ينافسون بها أولئك الفطاحلة، لم يجدوا من الشهرة حتى على المستوى العربي، ولكن عندما يصدح “كابلي” بتلك الكلمات مصر يا أم “جمال” أم “صابر” مصر يا أخت بلادي يا شقيقة يا حقيقة، تؤكد هنا عبقرية الشاعر السوداني، أو حينما يقول: يا دمشق كلنا في الهم والآمال شرق، تخيَّلوا هذا الفتى وهو في ريعان شبابه يكتب مثل الكلمات ويتنبأ للعالم العربي، وكيف يمكن تضامنه؟، والكل مهموم بهذا الوطن، وثمة ملاحظة أخرى عندما يتحدث عن الملايو وأفريقيا الجديدة، وتنبأ أن تكون هنالك أفريقيا جديدة بكل مكوناتها من شعب وتطور وحضارة وثقافة، وها هي أفريقيا فعلاً تتجه نحو التطور والرفعة ومن غابات كينيا، وهنا يرمز إلى تلك الغابات الشاسعة بحيواناتها وخضرتها التي تجذب نظر السياح وفواكهها وثمارها، وكينيا فعلاً ملهمة للكتاب والشعراء والمبدعين، ولكن كيف تخيَّل شاعرنا “تاج السر” كل ذلك؟ وهو لم يفكر أن يزور يوماً أندونيسيا، كما قال، في صياغة كلماته، وما زرت يوماً أندونيسيا، كم تبعد أندونيسيا عن السودان؟ كم تستغرق الرحلة بالطائرة إلى أندونيسيا؟ بالتأكيد عشرات الساعات، ولكن خيال الشاعر نقلنا إليها في لحظات وكأنما شاهدها.
إن الشاعر “تاج السر الحسن” لم يجد من إعلامنا ما يقدمه للوطن والشعب بالصورة التي نفاخر بها، ولكن كلماته تلك قدمته أجمل تقديم، لأن آسيا وأفريقيا التي تغنى بها “كابلي” بعد مؤتمر باندونق في 1955م، جعل من أولئك الرؤساء الأفارقة والعرب والآسيويين يفتخرون بأن للسودان شعراء فحول، وقيل إن الرئيس “جمال عبد الناصر” وهو واحد من أولئك الرؤساء الذين شاركوا في ذاك المؤتمر، أعجب بها أيما إعجاب.
فالقصيدة ذكرت “نهرو” أسطورة الهند و”تيتو” و”نكروما” و”سكارنو” وكلهم رؤساء يدعون للتحرر من قبضة المستعمر، وقد شهدت فترة حكمهم نضالاً واسعاً والتفاف جماهيري كبير، جعل لتلك البلدان قيمة وسط القارة السمراء.
عندما نستمع للمغنين اليوم نجد هناك فرقاً كبيراً بين صياغة الجيل السابق والجيل الحالي رغم التطور الهائل في التكنولوجيا، ولكن تحس بطعم الكلمة ونكهتها لشعرائنا السابقين، نحن في عصر السرعة، والكلمة المغناة اليوم كأنها قطعة خبز خرجت من النار وأصابها الهواء فأصبحت عسيرة الهضم، ولذلك لن تعمِّر كلمات الجيل الحالي ولن يعمِّر مغني اليوم كثيراً، فهل من جهة تدرِّس الماضي للمحافظة عليه من الاندثار؟.