ماذا بعد؟!

المسحراتي..!!

لماذا اختفى صوته الليلة.. صدح الفجر وغاب.. الناس الهائمون نائمون.. الدفوف لا تجد من يطرقها.. أين ذهب الرجل المصباح ؟!.. قال الراوي: إنه خرج ولم يعد.. وقال الشاعر: لقد مل الصياح.. وقال الرسام: كأنه بات يخشى مخاطر الطواف في ليلٍ غير مأمون..  وقالت امرأة: لو كان زوجي لمنعته.. يوقظ الناس في كل ليلة.. فماذا يعطونه مقابلاً..؟! وقال صائم: جزاه الله كل خير.. يوقظنا للسحور بصوت رخيم  يطرق أبوابنا وقلوبنا برفق وحنو.. يمنحنا حماساً وإقبالاً على يوم جديد.. يحلق بأرواحنا عالياً..عالياً.
إذن خرج المسحراتي ولم يعد.. تم تدوين البلاغ وجاء في صفحة التحريات: اختفى السيد (المسحراتي) في ظروف غامضة.. وبسؤال شهود عيان قالوا: انتظرناه في ليلة رمضان الأولى فلم يوقظنا صوته كالمعتاد.. وبعد أن فرغنا من السحور خرجنا للبحث عنه دون جدوى.. وبسؤالهم عن اسمه وعمره وعنوانه .. قالوا لا نعرف عنه شيئاً قط.. كان يطوف بين الأزقة والشوارع وحين يقف أمام كل بيت يدعو صاحبه باسمه ليقوم من نومه ويتسحر.. يعرفنا جميعاً ولا نعرفه.. كان ينشد ويقول : (يا صائم قوم اتسحر.. يا صائم قوم اتسحر.. يا صائم قوم اتسحر).
بعضهم قال: ربما ترك الوطن وهاجر إلى بلد آخر.. المسحراتية يجدون فرص عمل مغرية ومجزية في الخارج.. غير أن أكثرهم ذهب إلى أن (الغائب عذره معاه) قد يكون مريضاً مثلاً.. وهنا اعترض أحدهم وقال بصوتٍ عالٍ : بل دخل في إضراب.. لماذا لا تقولون الحقيقة.. الرجل سئم الحال وضجر من الوضع السياسي الراهن والأزمة الاقتصادية الطاحنة، والتفكك المجتمعي المربك وتدهور مستوى الثقافة والفنون والإبداع.. إنه يحتج على حالة البيات الكلي والبرود المجاني الذي يمارس في الهواء الطلق.. منزعجُُ من التضييق على الحريات.. ومكايدات الساسة التي جعلت معادلة الوطن مختلة.. حزينُُ لشبابٍ يهيم بحثاً عن هدف وعمل .. لفتيات يملأن البيوت في انتظار زوج.. لأطفال يولدون.. لآباء وأمهات لا يملكون شيئاً سوى انتظار القادم.
هكذا هي النخب المثقفة تفلسف الأمور بتضخيم مشاتر.. تقحم السياسة في كل شيء وتعلق خبر غياب المسحراتي على شماعة السياسيين.. أحدهم الذي روج لفكرة معارضة واحتجاج المسحراتي اختفى بدوره منذ أن قال كلمته وانصرف.. أصدقاؤه قالوا الرجل كان دائماً يتكلم في السياسة ويبحث عن بطولة متوهمة.. وهو على استعداد تام لدخول المعتقلات والسجون، كي تكتب عنه الصحف في اليوم التالي (اعتقال المناضل الذي كشف حقيقة اختفاء المسحراتي).
كانت (أمنية) تراقب المشهد من على البعد وتحتفظ بسر اختفاء المسحراتي دون أن تخبر أحداً بالحكاية.. وأمنية لمن لا يعرفها هي البنت الوحيدة للمسحراتي.. فقد جلس إليها أبوها ذات يوم وقال : يا أمنية يابتي أنا خلاص تعبتا من الشغلانية دي .. عمري كبر وصوتي راح.. والناس دي ما دايرة زول يصحيها عشان تتسحر.. دايرة زول يصحيها عشان تصحى بالجد وتبطل الخمج العايشه فيهو ده.. عنهم ياخي ما اتسحرو.. زمان يا أمنية أصحابي قالوا لي صوتك الجميل ده لو غنيت بيهو في الحفلات كان هسي ركبتا عربية وسكنتا في بيت من طوابق حدادي مدادي.. رفضت الفكرة وقلت ليهم أنا من يومي زول آخرة ما زول دنيا وثواب الله كافيني عن ثواب الناس.. الناس البتفقد أحوالهم وما حصل واحد فيهم اتفقد أحوالي لمن رقدتا مريض كل الفترة الفاتت دي.. بعرفهم واحد واحد.. ولا واحد فيهم بعرفني.. هذه استقالتي يا أمنية أضعها بين يديك ..إن سألوك عني قولي لهم : إن أبي خرج ولم يعد.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية