ديمقراطية (الونسة)..!!
(مجالس الونسة) طقس سوداني مائة في المائة.. يتحلّقون رجالاً كانوا أم نساء ثم (يتونسون).. يختلفون أو يتفقون في الرأي (من غير زعل).. ليضربوا مثلاً فريداً في (ديمقراطية الونسة).. التي لا تنتهي بالتصويت للأغلبية ضد الأقلية أو تزكية (فلان) وتنحية (علان).. ينتقدون الحكومة وأخطاءها.. ويسخرون من الأحزاب وممارساتها.. ثم يخففون من وقع السياسة الكئيب بالحديث عن (الكورة) وترتفع أصواتهم قليلاً ما بين مؤيد للمريخ ومناصر للهلال.. ولا بأس أن يخرج بينهم من يشجع الموردة أو بري أو الزهرة!!
(مجالس الونسة) – ولا نعرف إن كانت هي مجرد صدفة أم سيناريو مقصود– لابد أن يكون ضمن قائمة عضويتها شخص (فلتة).. سريع البديهة (خفيف الظل).. وصاحب نكتة من النوع الذي (يميت من الضحك)!! وهو الشخص الذي يمثل القناة الفضائية المتحركة والملونة التي تقدم برامجها الجاذبة في الهواء الطلق.. إنه يتحدث في كل شيء، ويملك قدرة سحرية على تحويل الحزن إلى فرح، وتفويت الفرصة على العابسين والمتجهمين والمتشائمين فيتسلّم منهم الكرة ويضعها بحرفنة في شباك الابتسامة والحبور!!
هذا (الونَّاس) الكبير أشبه بالحاوي الشاطر الذي يخرج في لمح البصر من صندوقه العجيب (الثعابين الراقصة)، ومن تحت قبعته (الأرانب المرحة)، ومن فمه (الأمواس) المتدلية إلى أسفل البطن دون أن تسبب له جرحاً ولو صغيراً!!
وحين يختصمون في مجلسهم ويحتدون في ونستهم يصرخ في وجوههم مداعباً: (يا أخوانا عليكم الله أقلبوا الصفحة دي!!).. ثم يخاتلهم بنكتة جديدة (لنج) عن آخر أخبار (الفساد) أو (غلوتية) من النوع المحير كحكاية (النملة التي دخلت الجحر ثم التقطت حبة ثم خرجت…!!)
(مجالس الونسة) التي لا تجمع من عضويتها أي اشتراكات، ولم تفكر الحكومة حتى الآن في أن تفرض عليها أي نوع من الضرائب أو الجبايات.. وتتخذ من (شجر النيم) والميادين والعصريات والأمسيات مسرحاً لها، بدأت في السنوات الأخيرة تتقلص شيئاً فشيئاً في ظل اللهاث اليومي المحموم من أجل مجابهة أعباء الحياة وتوفير لقمة العيش.. وفي ظل زحف الفضائيات الكثيرة العدد على مساحة (الزمن الضائع) من أعمار الناس.. وفي ظل ربما روح الشك والحذر التي كانت تنتاب المواطن البسيط في تلك السنوات الاستثنائية التي جعلته لا يثق في الآخر وما إذا كانت (الونسة) تنتهي وتدفن تحت الشجرة التي تجمعهم أم سيتحول أمرها إلى (تقرير أمني) في الصباح يؤذي حتى (الونَّاس) الكبير زعيم الجلسة!!
هذه المخاوف القديمة زعزعت آنذاك كثيراً (مجالس الونسة) السودانية، ولكنها كما يدل الواقع الآن تلاشت فتجاوزها الناس بعد أن أطلقت الحكومة سراح الحريات وأتاحت حق إبداء الرأي والرأي الآخر.. فالحكومة تعرف جيداً أن (الونسة) لا يمكن أن تطيح بالنظام، وأن (الونسة) تحت ظل شجرة أفضل بكثير من (اجتماعات التنظيمات السرية غير المسجلة) التي ورغم هامش الحريات المتاح الآن لكنها ما عادت موجودة بعد أن تحولت إلى ما يشبه (صياح الديكة) الذي تمارسه الأحزاب المتهالكة كل صباح على عتبات الجرائد ومساطب الدرجة الثالثة السياسية!!
ورغم أجواء الحريات هذه، وللأسباب الحياتية الضاغطة، تتراجع الآن (مجالس الونسة) أو تتوزع عضويتها إلى (كيمان) صغيرة بدلاً عن (الكوم الكبير) الذي كان يجمع من يسكنون في حلة واحدة أو على الأقل شارع واحد.. وتغيرت كذلك مضامينها الثقافية والاجتماعية والسياسية المتنوعة والمفيدة، وأصبحت أقرب إلى (الشمارات) التي ترصد كل صغيرة وكبيرة، وتلعن كل من يأتي ذكره على الألسنة.. والأخطر من ذلك أن (مجالس الونسة) المتضائلة الآن أصبح كبير (الونّاسين) فيها هو (الموبايل) وليس ذلك الشخص خفيف الظل.. فـ(الموبايل) الذي لا يسكت رنينه أبداً هو الذي يحمل الأخبار والرسائل والأسرار.. ويسمح بمشاركة الآخرين من خارج مجالس (الونسة) وتقديم مداخلاتهم على الهواء مباشرة!!