علاقتنا بالعزيزة مصر من الأهمية بحيث إن وصفها بالإستراتيجية يظلمها، ولا يوفيها حقها.. ولكنني لم أجد مفردة أقوى منها بعد.. ويتعين أن تكون هذه العلاقة على الدوام أكثر أهمية، وأكثر إستراتيجية.. وأن تظل بمنأى عن عاديات السياسة، وتقلبات طقسها.. ولا يسمح لأي جهة أن تنال منها أبداً.. إن الإخوة بشمال الوادي سيقعون في خطأ فادح، إن ظنوا أن بمقدورهم الاستغناء عن جنوب الوادي.. وهو الوهم الفاضح عينه الذي ستتورط فيه الخرطوم.. إن هي توهمت قدرتها على المضي صوب خط الاستواء، أو إلى قلب الصحراء بدون مصر.. إنهما رافدا وادٍ، أيهما انقطع أعطش صاحبه.. ومثل غصني شجرة أيهما كسر أوحش رفيقه.. ولا فكاك.. وعليه فالمطلوب من كل شطر أن يجتهد في بلده ويعمل لصالحه، وكأنه لم يسمع في مصر ببلد اسمها السودان.. وأن يسعى لتعظيم حقوقه وكأنه في السودان لم يعرف دولة جارة اسمها مصر.. إن الحقوق ما لم توثق وتدقق قادرة أن تفسد بين الأخوين الشقيقين.. على أن المطلوب بإلحاح حالياً ومستقبلياً، أن تنسق الدولتان في القضايا الكبرى والمسائل الحيوية، وكأنهما دولة واحدة.. فالبقاء في هذا الزمان للكيانات الكبيرة فهماً وتفكيراً وممارسةً.. ولم أرَ كالمصالح الكبيرة شيئاً يوحد الكيانات الكبيرة.. إن السعي لأجل نافتا نيلية سيكون أكبر إنجاز في مرحلة ما بعد جلاء الاستعمار.. وإن إقامة سوق ثنائية مشتركة سيكون أروع عمل في مرحلة ما بعد الاستقلال.. ولكن لن نصل إلى شيء من ذلك ما لم تكن البدايات مخدومة بإخلاص وإتقان لتنجز عظمة الناتج النهائي.
لن يستمع شعب البلدين إلى عبارات مستهلكة بعد اليوم.. سيفرح فقط عند وجود بضائع للاستهلاك.. فقد مضى زمان العبارات الطنانة، لقد صارت شيئاً من الأمس، مثل ديكور قديم لمسرحية قديمة.
سيكون شيئاً رائعاً لو أن قيادة البلدين جعلت أولى همومها تحصين البلدين من غلواء الأزمات الراهنة، بالتركيز على أزمات المستقبل.. فمن ينظر تحت قدميه سيسقط عند منعرج اللوى، أو عند أول انعطافة إقليمية حادة.. أتركوا التفكير الآني لربات البيوت.. الدول لا تفكر وتخطط بطريقة الهوانم في المصروف اليومي وسندوتشات الإفطار للطلبة الصغار.
في ظل أزمة كورونا ثمة حاجة للتفكير خارج الصندوق.. تفكير من شأنه أن يحسن معاش البلدين، ويحسن اقتصاد الشطرين، ويؤمن غذاءهما من المجاعة، ويسور العلاقات من الاختراق أو الاحتراق.. إن جائحة كورونا ستتلوها حالة ركود اقتصادي لا محالة.. وسيعقبها ركود اقتصادي عالمي.. وسيقول كل حليف كانت تنتظره الخرطوم.. وسيصرخ كل صديق كانت تؤمل فيه القاهرة (لا ألهينك إني عنك مشغول).. وسيكون عندها حتماً لزاماً على البلدين، أن ينهضا اليوم لأجل عمل نافع انطلاقاً من خطة إستراتيجية عادلة لها ما بعدها.
إنني سعيد بالزيارة المهمة جداً للفريق أول (حميدتي) للقاهرة.. وأتمنى أن تكون زيارة عمل تعالج أمهات المشكلات، وأسباب الأزمات، وتناقش آفاق المستقبل.. نتمناها زيارة تخرج من ضيق الوعاء التكتيكي إلى رحابة الغد الإستراتيجي.