ما بين الشكّابة والقصر!!
هذه أول دعوة أتلقاها من القصر لمرافقة أحد المسؤولين بعد أن توليت منصب رئيس التحرير، وسبق أن اتصل علي الأخ “عماد سيد أحمد” السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية في وقت مضى لمرافقة رئيس الجمهورية إلى “أديس أبابا”، ولكن لم يكن جوازي جاهزاً، فاعتذرت، وتكرر الاتصال، ولكن هذه المرة من الأخ “ناجي بشير” مسؤول الإعلام، لمرافقة مساعد رئيس الجمهورية العقيد “عبد الرحمن الصادق المهدي” لزيارة ولاية الجزيرة في إطار احتفالاتها بأعياد الاستقلال، والاحتفال بنصب مسلة لشهداء الشكابة التي استشهد فيها نجلا الإمام المهدي “بشرى” و”الفاضل” وسبعة عشر من الأنصار في معركة لم تكن متكافئة بين الطرفين، إذ أن القوات الغازية كانت مدججة بالسلاح بينما الأنصار لا يملكون إلا السلاح الأبيض والعصي.
أقلعت بنا الطائرة صباحاً في اتجاه ولاية الجزيرة، وهي مروحية على درجة عالية من الكفاءة ومعدة لنقل ستة عشر راكباً تقريباً.. الضيافة كانت رائعة والمضيف مهموم بتقديم أفضل ما لديه من وجبة مع التحلية التي اشتملت على سلطة الفواكه والشاي والعصير المتنوع.
المسافة من مطار الخرطوم إلى ولاية الجزيرة قطعتها المروحية التي كانت تطير تقريباً على ارتفاع عشرة آلاف قدم.. وربما أقل.. إذ أن المسافة ما بين ارتفاع الطائرة والأرض لم تكن شاسعة، وعندما حاولت الهبوط في المدرج الذي حدد لها بجوار القصر الرئاسي كادت الطائرة أن تلامس أجنحتها الأشجار وأسطح المنازل.. ولكن قدرة الكابتن كانت فائقة في الإقلاع وعند الهبوط.. ولم أشاهد مثله خلال كل السفريات التي سافرتها.
هبط مساعد رئيس الجمهورية وبرفقته وزير السياحة “محمد عبد الكريم الهد” من الطائرة لأرض المطار المصغر الذي اصطف فيه البروفيسور “الزبير بشير طه” والي ولاية الجزيرة وأعضاء حكومته، واستُقبل العقيد “عبد الرحمن” بالطبول والنحاس وموسيقى (القرب) في صورة رائعة تجسد مدى محبة الأنصار لزعمائهم.. وكانت هتافات الله أكبر ولله الحمد تؤكد تمسك الأنصار بها.. ومن المطار غادر مساعد رئيس الجمهورية والوفد إلى القصر الرئاسي الذي أعد في إحدى قاعاته فيلم مصور حديثاً عن معركة الشكابة والباخرة التي دخلت المنطقة وحاصرت القرية وقبضت على نجلي الإمام المهدي “بشرى” و”الفاضل” وأجرت لهم محاكمة عسكرية فورية كانت قراراتها قتل نجلي الإمام “المهدي “بشرى” و”الفاضل” رمياً بالرصاص.. كما استشهد كذلك الخليفة “شريف” وعدد من الأنصار.. والفيلم صور بطريقة جيدة والسيناريو أجود.. وكان المذيع “جمال مصطفى” معلقاً عليه، والفيلم يحكي عن بعض التاريخ الضائع، وكثير من مشاهد الفيلم ربما لم يسمع بها الكثيرون من أبناء السودان، ولكنه خطوة لإجراء أفلام مشابهة خاصة لمثل تلك المواقع.
ما أعجبني في العقيد “عبد الرحمن” تواضعه وتفقده لمرافقيه خاصة الصحفيين، وفي الطائرة طلب من الصحفيين مقابلته بغرض فتح حوار.. والعقيد “عبد الرحمن” يتمتع بوطنية عالية ومن خلال الجلسة القصيرة اتضح لنا أنه مهموم بهذا الوطن وقضاياه، وهو داخل حكومة الوحدة الوطنية يختلف تماماً عندما كان بالمعارضة، فقد ظُلم الرجل كثيراً ولكن الآن يسير في طريق وطني ويدعو الجميع لمد اليد من أجل بناء واستقرار هذا الوطن، وإلا فإن إسرائيل لم تكن بعيدة، فإذا تجاهلنا الجنوب بعد الانفصال فإسرائيل أقرب للانفراد به.
أعجبت بمسؤول مراسم القصر “أبو القاسم” ذلك الشاب الهميم ومدير مكتب العقيد عبد الرحمن “بشرى” وبقية الطاقم.
وعندما استدعانا السيد مساعد رئيس الجمهورية همست في أذنه وقلت له ناس يجيبوهم “الشكابة” وناس يودوهم “القاهرة”.. فضحك حتى كاد أن يسقط.