رن التلفون ولم يكن من ضمن الأسماء المسجلة لدى، فجاءني الصوت السلام عليكم “صلاح” أنا أختك “فائزة”.. سرحت برهة فلم تكن لدى أخت اسمها “فائزة”.. كررت التحية عليها أهلا، فقالت لي أنا أختك “فائزة محمد عبد الحق” كنا جيرانكم في الثورة الحارة الثانية، استرجعت التاريخ وبدأت تتحدث عن الزمن الجميل الوالد والوالدة والإخوان والأخوات، قالت لي: لن ننسى الحارة الثانية وأهلها، فقد كنا أهل فعلاً كان الزمن جميلاً بدون حواجز، البيوت كلها بيوت للجميع، سألتها أين أنتم الآن؟ قالت لي نحن نسكن في المنطقة الفلانية، لم نبعد كثيراً من الثورات، قلت لها أين الأولاد؟ قالت بضحكة الآن أنا حبوبة، سألتها عن الأخوات فقلت لها أين “شادية وظبية” وأين “صلاح وكمال وبهاء”؟ قالت لي: الجميع أصبحوا حبوبات، أما “كمال” فمازال في مدينة (أبها)، و”بهاء الدين” في كندا، لقد كانت أيام طيبة وذكريات لن تنسى، فأهل الحارة الثانية كانوا كالأسرة الواحدة، فمعظم سكانها من سكان أم درمان القديمة ود نوباوي وبيت المال وغيرها من مدن أم درمان العريقة، بدأت تتحدث معي وتتذكر كل التفاصيل للأسرة الكريمة، أحسست أننا أشبه بأهل الكهف فقد مضى زمن طويل على تلك الأيام والسنين، لقد تزوجت صغيرة فقالت لي: لقد حرمنا الوالد من التعليم وقتها، ولكنني واصلت تعليمي مع ابنتي الصغرى، فقد بدأت معها الدراسة منذ الصف السادس إلى أن أكملت المرحلة الجامعية وتخرجت من جامعة الأحفاد علم نفس، قلت لها والله أنت عصامية، أجابتني لقد حرمنا الوالد من التعليم، وأصر على زواجنا ونحن صغار، ولكن كان لابد أن أكمل تعليمي رغم مضي الوقت، أحسست أن الحياة لن تتوقف، ومهما طال الزمن لابد من الالتقاء إذا أمد الله في الآجال، تلك الأسرة كانت من الأسر العريقة والمميزة، فقد كان والدهم رحمة الله عليه من كبار المقاولين في تشييد المباني، وكان يمتلك منزلين بالحارة الثانية وكان يمتطي عربة فارهة، ولكن وقتها الكل بدأ التفكير في الغربة على الرغم من حالته المعيشية الميسرة، فباع أحد البيوت وحمل كل الأسرة إلى المملكة العربية السعودية، واذكر أننا سمعنا بعد ذلك أن والدهم قد التحق بعمل بمنطقة الدمام لم نلتق بتلك الأسرة منذ أن غادروها ونحن صغار، إلى أن جاء الوالد نهاية الثمانينيات مع حرمه الراحلة “سعاد” هكذا كان ينادي عليها، بينما نحن نقول لها “سعدية” شاءت الأقدار ألا تعيش طويلاً بعد تلك الزيارة، فانتقلت إلى الرفيق الأعلى ولم يمض على رحيلها زمناً طويلاً فلحق بها، لم نعرف من بعد ذلك أين ذهب هؤلاء وأين كانت محطاتهم وماذا فعل الله بهم إلا من خلال التلفون الذي تلقيته منها بالأمس، وقد شدها إلى الحارة الثانية وأهلها صورتي في قناة (العربية والحدث) فقالت لي كلما أشوفك أقول لأولادي ده من أهلنا الذين عشنا معهم في الحارة الثانية، استعدتُ أياماً خلت أيام البساطة والعفوية بين الناس، كان الدخول إلى المنازل بدون استئذان والمبيت في أي غرفة بدون استئذان وأخذ الطعام كذلك بدون استئذان، فالبيوت وأكلها للجميع، الحارة الثانية المهدية كما نسميها لأن الفريق الراحل “عبود” هو من وزعها على البسطاء من عامة الشعب بمبلغ ثلاثين جنيهاً وقتها، مازال سكان الحارات القديمة بالثورات يحسون بأنهم أسرة واحدة وعندما تلتقي أحدهم كأنما التقيت أخاً لك غاب عنك زمناً طويلاً اللهم احفظ تلك الأسرة الأحياء منهم وأدم التواصل بينهم وأعد غائبهم ومتعهم بالصحة والعافية وأرحم من رحل منهم.