طول البقاء في الحكم دائماً يمثل آفة الزعماء والرؤساء التي تجعل سلطانهم وصولجانهم مصيره الزوال والضياع، فالواضح أن نشوة الحكم الطويل لها طعم جميل ومذاق خاص يعمي أبصار هؤلاء الحكام من ملامسة أوتار النهاية وإسدال الستار على مكوثهم في دفة الحكم، فالسنوات الطويلة في قيادة الشعوب تمنح هؤلاء الزعماء الإحساس بأنهم مبعوثو العناية الإلهية لبلادهم وأنهم جاءوا ليكونوا حكاماً وسلاطين على شعوبهم، حيث يستوجب من هؤلاء الطاعة والولاء لهم.. هذه الصور والحالات انطبقت على “حسني مبارك” في مصر، و”القذافي” في ليبيا، و”موقابي” في زمبابوي، و”ماركوس” في الفلبين، “وشاه” إيران، و”بول بوت” في كمبوديا، فقد مكث هؤلاء الحكام في الكراسي سنوات طويلة ولم يصدقوا أنفسهم عندما نُزعت عنهم السلطة عنوة.
الشاهد أن الرئيس السابق “عمر البشير” الذي مكث حوالي ثلاثين عاماً في السلطة لم يتخيل أن الاعتصامات الشبابية في القيادة العامة يمكن أن تسوقه إلى مغادرة الحكم بعد أن رأى القادة العسكريين بأن هذه الخطوة تعكس المعالجة الناجعة لانسداد الساحة السودانية.. الآن يقبع “البشير” في محبسه بعد زوال سلطته التي دامت زمناً طويلاً، وفي مثل هذه اللحظات القاتمة والأيام والليالي المليئة بالحرقة والصدمة لا بد أن تتحرك أحاسيسه ومشاعره المفعمة بالذكريات والمواقف في دواخله في إطار المراجعة الذاتية التي تمثل إعصاراً ثقيلاً على نفسه معطوناً بالندم والأماني والحسرة من خلال شريط طويل يحكي ما أحدثته تلك السنوات من تغيرات جذرية في تركيبته الفكرية والمزاجية.. في الشريط لا بد أن يرى “عمر البشير” نفسه بأن هالة السلطة التي وفرت له المجد والشهرة جعلته لا يتحمل مراجعات شيخه “الترابي” حيث قام بإزاحته بمعاونة العديد من تلاميذه، ومن ثم يظهر شريط المراجعة الذاتية بأن “البشير” شعر بعد ذلك بأن الإسلاميين المدنيين ليسوا ملائكة ولا أصحاب الناقة في القرار السياسي، الشيء الذي شجعه بأن يكون الآمر الناهي في التنظيم الحاكم في ظل أجهزة حزبية كرتونية، وهو قابض على الذراع العسكري والأمني.. أيضاً في الشريط يرى “البشير” نفسه بأنه قد أصيب بحالة واضحة من الغرور والخيلاء في دفة الحكم، حيث أصبح يصدر القرارات الإستراتيجية بمفرده دون دراسة ومراجعة، وأنه فوق المحاسبة والخطأ، وفي الشريط يلاحظ “البشير” كم هو يتلون في وضع السياسات الخارجية حيث لا يعرف أحد مع من يقف السودان، وفي أي محور يصنف، بل حتى رفقاء التحرك في انقلاب الإنقاذ كم أخرجهم “البشير” من السلطة فكان آخر الرفقاء الفريق أول “بكري حسن صالح” زميل خندق المظلات، وفي الشريط تظهر أن محاربة القطط السمان وسماسرة الدولار ولصوص الدولة قد تبخرت في الهواء، بل كانوا في مأمن في ظل سطوته، وكم أهان “البشير” حزبه وقدم قيادته وعضويته قرابين للكوارث الاقتصادية والإخفاقات السياسة، ثم يظهر شريط المراجعة الذاتية مسرحية انتخابات 2020م، الرئاسية بكل سلبياتها.. فقد كانت هنالك على الشريط صور الأخطاء الكبيرة والمواجع القاسية والتصورات المدمرة التي نتج عنها ضياع الإنقاذ في لمحة بصر، قبل أن يشرع الرجل في استخدام الوسائل القاسية التي تساعده على البقاء مرة أخرى.. وهنا شعر الرئيس السابق بعدم قدرته على تحمل متابعة شريط المراجعة الذاتية!!