غيَّب الموت أمس العالم الجليل البروفيسور “حيدر أحمد دفع الله” رئيس القضاء، ووري جثمانه الطاهر بمقابر (أحمد شرفي)، وسط حشد كبير من القضاة والمحامين والوزراء، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية، وأسرته الكبيرة والصغيرة بأم درمان وشندي، رحل مولانا “حيدر” وترك أثراً من العطاء والمحبة والعلاقات الاجتماعية الثرة، رحل مولانا وهو في قمة العطاء ومحبة الناس، كان مولانا أمة تمشي على الأرض، لقد احتشد قوم من البشر بمقابر (أحمد شرفي)، فلم أشهد جنازة بهذا المستوى قريباً، وهذا إنما يدل على حُب الناس إليه، مولانا “حيدر” لم يمنعه المنصب الرفيع الذي جعل كل القضاة السابقين أن يتعاملوا معه بحساسية زائدة، ولكنه كان يصل الناس في كل المناسبات أفراح وأتراح حتى الإعلام لم يتخوف منه كما يتخوف كثير من أهل القانون منه، بل جعل عدداً كبيراً من الصحفيين في علاقة اجتماعية حميمة معه، وهذا هو الذي أعطاه هذه الميزة بين كل الناس.
لقد قابلت مولانا “حيدر أحمد دفع الله” عن قرب بالدوحة التي كان معاراً في أحد الأجهزة العدلية، ووقتها حضرت إلى قطر في تغطية صحفية بمناسبة مؤتمر المرأة الأول الذي عقد في العام 2000 كانت هذه أول زيارة لي للدوحة، فاستقبلني استقبالاً كبيراً وأقام لي مأدبة إفطار في اليوم الثاني من حضوري، فدعا إليها كل الأعيان من مديرين ورؤساء أجهزة مختلفة من السودانيين بالدوحة، ثم جاءت فرحته الثانية حينما عينتني صحيفة الشرق قبل أن يتم التآمر علىَّ خلال ثلاثة أسابيع جاءني والفرحة تكسو وجهه إلى المنزل الذي أسكن فيه مع نسيبنا الراحل “حسن بن إدريس” مباركاً لي التعيين، ظلت علاقتي به ممتدة بعد أن عاد من الدوحة وظللنا في حالة تواصل مستمر، وكان كلما جاء حدث فرح أو كره اتصل علىَّ ليعلمني زواج ابنه أو وفاة شقيقه أو ابن عمه أو حتى فرحته التي اعتقد لم تكتمل الآن بتخرج كريمته من كلية الهندسة والمعمار جامعة الخرطوم، بدرجة الشرف، كان فرحاً بهذا التخرج المميز الذي طوق عنقه فاكتست الفرحة وظلت مداومة عليه يتذكرها كلما التقينا، ولكن للأسف لم الق عليه النظرة الأخيرة قبل وداعه، إذ كان الموت أسرع من زيارته بالمنزل التي حددناها والدكتور “صلاح معروف” الذي أخبرني بأن مولانا “حيدر” يرقد طريح الفراش بمستشفى (رويال كير)، فتواعدنا أن نذهب سوياً ورفضنا الاتصال به هاتفياً قبل وصوله أن كان خرج إلى البيت، ولكن في صباح أمس اتصل علىَّ الدكتور “صلاح معروف” والعبرة تخنقه ليخبرني برحيله المفاجئ، لقد كان إنساناً بمعنى الكلمة شاهدته في المناسبات.. وفي زواج نجل الدكتور “عوض أحمد الجاز” وخارج صالة الفرح دس ظرفاً في يده الدكتور نوعاً من المجاملات الاجتماعية التي يتميز بها السودان، فقال له هذه برقية أردت أن أوصلها إليك فابتسم الدكتور وهو يقول له لقد وصلت البرقية، شكراً جزيلاً، هذا هو مولانا الراحل “حيدر” الذي عرفناه عن قرب تماماً واذكر أيضا وهو المسؤول مع آخرين في إعادة صيانة مدرسة المؤتمر الثانونة، التي تخرج فيها.. فعمل على إعادتها بالصورة التي نراها الآن، لقد كان سباقاً إلى عمل الخير، وهذا جعل جنازته يصلي عليها هذا الجمع الغفير من الناس بل تقاطرت الدموع من أصدقائه وتلاميذه، ألا رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما قدم لهذا الوطن من أعمال جليلة.