لم يشهد المواطن السوداني طوال الفترة الماضية أن تعرض إلى ندرة في المال الخاص أو ماله الذي أودعه بمحض إرادته إلى البنوك، فالسياسات الأخيرة التي اتخذت بغرض وقف تصاعد الدولار ووقف صرف المال عبر البنوك بما كان متبع حتى يتم تجفيف السوق من السيولة التي تعتقد الدولة أنها وراء ارتفاع أسعار الدولار، ولكن السياسة جاءت خصماً على أصحاب المال أو الموظفين الذين حولت مرتباتهم إلى البنوك، فالبنوك الآن تقف عاجزة في الإيفاء بمتطلبات الصرف لمستحقيه فالمواطنون ليل نهار متكدسون في الصرافات الآلية بغية الحصول على جزء من مالهم المودع لدى البنوك، ومديرو البنوك يقفون عاجزين في الإيفاء بطلبات أصحاب الحق، فالبنوك كل صباح تدعو ربنا أن يتقدم إليها أصحاب الأموال لإيداعها لصرف ما دخل البنك من عملة إلى أصحاب الشيكات أو الموطفين الذين ينتظرون صرف مرتباتهم، الدولة أحيانا تتخذ من القرارات التي لم تدرس بتأنٍ، فنحن نعمل بالهاشمية أو الهوشة، ومن ثم نتخذ القرار وفي النهاية أي قرار لم يخضع إلى الدراسة لفترة من الزمن مصيره الفشل، فهذا القرار في ظني كشف الحكومة، وأوضح أن أهل الاقتصاد عندنا لم يطبقوه على الواقع، فالدراسة النظرية لا تعطيك الحقيقة فلابد من العملي حتى في دراسة الطب الممتحن لا يكتفي بامتحان طالب الطب إلا نظري وشفهي، ولكن نحن نعمل بالشفهي وهذا هو الذي ادى إلى تراجع اقتصادنا، فهل يعقل أن تتخذ الدولة قراراً تمنع بموجبه المواطن من التصرف في ماله أو أخذه متى ما احتاج إليه من البنك الذي أودعه فيه وهل ستكون هناك ثقة ثانية مع البنوك في ظل هذه السياسة بالتأكيد لا، لأن المواطن الذي ذهب إلى البنوك طائعاً مختاراً لإيداع ماله فإن لم تدفع له البنوك هذا المال فلن يتجرأ مرة أخرى بإيداع فلس فيها، لذا لابد أن تراجع الدولة مثل تلك السياسات لمصلحتها أولاً قبل مصلحة المواطن المسكين، وهذه السياسة بالتأكيد جعلت المواطن يكون حذراً في التعامل مع أي مصرف لذلك انتعش سوق الخزن وارتفعت أسعارها لأن المواطن الذي تردد على البنك أكثر من مرة ولم يتحصل على ماله اتجه لشراء خزنة ليضع فيها أمواله، وهذا هو الذي جعل البنوك الآن في حالة جفاف شديد من السيولة، المسألة الثانية التي لم تكن الدولة فيها موفقة اعتقالها للمضاربين بالعُملة، فقبل تلك السياسات العُملة كانت متوفرة وكل إنسان يريد أن يشتري دواء أو بضاعة أو يريد السفر إلى العلاج فيجد الدولار في السوق بالسعر المتداول، ولكن ما إن اتخذت الدولة سياسة القمع والقبض وإدخال السجون، هرب تجار العُملة بل سحبوا أموالهم وفروا إلى الدول المجاورة، فالآن انتعشت تلك البلدان بالعُملة السودانية التي هربها التجار، فأصبحنا خالين من الدولار ومن السيولة النقدية السودانية، ثالثا الدولار الجمركي وهذا هو أس المشكلة كلها فما إن ارتفع الدولار الجمركي أصبح الأمر صعباً على الكل حتى المواطن البسيط تأسر بهذا الدولار الكارثي وظلت الأسعار في تصاعد يومياً، فكل السياسات التي اتخذت باعتبارها الحل أصبحت وبالاً على الكل، ويظهر هذا الآن في الكساد الذي تعيشه الأسواق والعيد على الأبواب والأسعار في تصاعد مستمر فهل تتراجع الدولة من تلك السياسات للمصلحة العامة؟