تحقيقات

محتالون في هيئة متسولين.. روايات وقصص بثياب مختلفة !!

 تتعدد السبل لاستدرار عطف الناس
سيدة تضع ابنتها في دائرة الاغتصاب للحصول على المال!!
الصدفة تنقذ سيدة همت بمساعدة محتالة بـ(10) آلاف عبر قصة وهمية
باحثة اجتماعية: الأسباب اقتصادية والمشاكل النفسية وراء الظاهرة  
تحقيق – هبة محمود
بكلمات كاذبة، وروايات متقنة الإحكام، لم يجد بعضهم خياراً سوى المشاعر وتراً يعزفون عليه أكاذيبهم للحصول على الأموال بحجة (العلاج ـ الطعام ـ الإيجار ـ الرسوم الدراسية)، تلك الأسباب (الاحتيالية) التي ارتضاها أصحابها وسيلة (مريحة) لاقتناء المال، لينافسوا بذلك (المتسولين) أصحاب الملابس الرثة والشكل (البائس)، ويسطروا أنفسهم ضمن قائمة (التسول الاحتيالي)، تلك الظاهرة التي انتشرت مؤخراً بشكل كبير ولافت وبوسائل مختلفة وقصص متنوعة وقع ضحيتها أعداد كبيرة من المواطنين، بعد أن أتقن أبطالها دورهم ببراعة وهم ينتحلون شخصيات (عزيز قوم ذل) للحصول على مبتغاهم، ليختلط بذلك نابل المحتالين والمحتاجين معاً.
مشاهد تتنوع معها انتشار الظاهرة وتتباين أساليبها، مخلفة وراءها عدداً من التساؤلات أمام هذا النشاط الذي أفقد الكثير من المواطنين المصداقية وسرعة الاستجابة خاصة حيال القصص المتعلقة بالعلاج، وقصة (الموت الرحيم) ليست بعيدة عن الأذهان بعد أن أخذت حيزاً كبيراً في وسائل الإعلام، (المجهر) في معرض تحقيقها استمعت إلى عدد من الروايات، فإلى بعض الحكاوى.
 تدعي العوز وينفضح أمرها!!
لم تكن “نهال فضل الله” (موظفة) تدري أنها على موعد مع إحدى قصص الاحتيال والدموع الكاذبة التي كثيراً ما سمعت عنها ولم تعرها اهتماماً، إلا أنها أكدت لـ (المجهر) أن قصة تلك السيدة التي اتخذت من شارع الجمهورية مفترشاً لها والدموع تحفر خديها استوقفتها وزميلاتها وهن في طريق عودتهن من العمل.
 تقول “نهال”: استوقفنا عصر ذاك اليوم مشهد هذه السيدة بهندامها الأنيق ووجهها الصبوح وهي تجلس على الأرض تحمل مسبحتها وتبكي بحرقة، فدنونا منها لاعتقادنا ربما مكروه أصابها أو طارئ ألم بها، وما أن سألناها عن حالها حتى بدأت في البكاء وشرعت تقص علينا بعد إلحاح منا قصتها مع صاحب المنزل ومطالبته لها بدفع متأخر الإيجار (8 شهور)، حيث إنها تقطن أحد الأحياء الخرطومية العريقة، وكذا قصتها مع زوجها الذي تركها منقباً عن الذهب ثم لم يعد مرة أخرى تاركاً لها (6) أبناء، أكبرهم فتاة جلست لامتحان الشهادة الثانوية هذا العام، وأضافت: عقب سماعنا لهذه الرواية طلبنا منها أخذها لمكان عملنا لإيجاد حل أفضل من جلستها هذه، إلا أنها رفضت، ولم تمر لحظات حتى ظهر شاب أنيق المظهر توقف بالقرب منا وبدأ يخاطب السيدة باسمها مستفسراً عن عدم اتصالها به، بالرغم من أنه عندما سألناها عن رقم هاتفها أنكرت اقتناءها هاتفاً محمولاً!.. الشاب سألها عن حال ابنتها مع الجامعة والرسوم الدراسية، لترتسم بذلك خطوط الدهشة على وجهها وأصبحت تردد كلمة (متأسفة) على مسامع الشاب الذي طلب منا الانصراف وتركه وحده معها، وزادت: تحركنا من موقعنا ذلك وكلنا دهشة من الموقف الذي تعرضنا له والحكمة الإلهية في ظهور ذلك الشاب فجأة، ولم تنتهِ دهشتي إلا عقب معرفتي أن تلك السيدة لم تكن سوى (محتالة) تتفنن في تنوع قصصها وتشتهر باسم الحي الذي تقطن به، وتتخذ ذلك الأسلوب لمعرفتها بشهامة الشعب السوداني.

احتيال باسم تذكرة سفر!!
وهنا قصة أخرى بسيناريو مختلف، بدأت وقائعها بحثاً عن ثمن السفر وانتهت بالبحث عن حق العشاء، وقع ضحيتها الشاب “محمد زهير” (مهندس)، الذي جمعته أقداره بأحد المحتالين الذي اتخذ من جوع أبنائه وضيق ذات يده وعدم امتلاكه لوجبة العشاء وسيلة للحصول على المال، مؤكداً لـ(المجهر) التقاءه عقب ذلك بالرجل أكثر من مرة مما دفعه فضوله لمعرفة أصل الحكاية.
يقول “محمد” التقيت بـ (….) رجل مهندم الشكل، في إحدى الأمسيات بشارع السيد عبد الرحمن بعد أن استوقفني طالباً مني (حق العشا)، ولم أتوانَ لحظة في مد يد المساعدة له طالما أن الأمر يتعلق بطعام وأطفال صغار، بجانب أن شكله أوحى أنه عزيز قوم ذل، ولم تمر أيام حتى التقيت بالرجل مرة أخرى في نفس المكان يطلب ذات المطلب إلا أنه لم يتبين ملامحي، وعندما أقتربت منه سألته عن قصته ولماذا لا يعمل بدلاً من مد يده والاحتيال على الناس بحجة الطعام، فأكد لي أن قصته بدأت عندما تم ترحيله من إحدى دول الخليج دون أن يملك ثمن التذكرة التي يعود بها لأسرته بوسط البلاد، مما دفعه الأمر ساعتها لمد يده لتوفيرها والعودة لأسرته، وأكد لي أنه في ذلك اليوم استطاع أن يجمع مبلغ ألف جنيه (مليون) بالقديم، وذهب إلى أسرته وقضى وقتاً معهم ليعود بعدها ويمتهن الاحتيال متنقلاً بين شوارع الخرطوم بحجة إطعام صغاره، ويضيف: تحدثت إليه بضرورة العمل بدلاً من صنيعه هذا، إلا أن حديثي لم يعجبه ولم ألتقه بعدها فترة من الزمن ليظهر بعدها بوقت طويل ولكنه هذه المرة معه أطفال صغار يطلبون (حق العشا) بينما اتخذ هو مكاناً قصياً يراقبهم منه، وعندما رآني لاذ بالفرار.
}احتيال على محامي !!
ولـ”إبراهيم محمد محمد” (محامي) قصة مع الاحتيال شبيهة بسابقاتها إلا أنها مختلفة التفاصيل والوقائع، فقد حكى لـ(المجهر) تلك الطريقة التي احتالت بها عليه إحدى السيدات وصغيراتها في كوبري (كوبر) عندما كان عائداً من مدينة بحري، يقول “إبراهيم”: كانت عقارب الساعة قد تخطت الحادية عشرة ليلاً عندما استوقفتني سيدة بصحبتها فتاتان صغيرتان طلبت مني توصيلها لمركز عفراء، حيث تقيم بالقرب منه، وقد كان محياها يخبر عن رغد عيش تنعم فيه، وما أن امتطت السيارة حتى بدأت الفتاتان في العبث بجميع أغراض السيارة وأخذ زجاجة عطر بالسيارة، وعندما اقتربنا من مركز عفراء بدأت الصغيرتان بطلب ثمن العشاء، ويضيف: أخرجت مبلغ (20) جنيهاً فرفضتاه وتفاجأت بوالدتهما تطلب مني إعطاءهما مبلغ (50) جنيهاً بحجة أن العشاء لا يتأتى بأقل من ذلك، وزاد: أعطيتهما المبلغ وذهبت بعد أن اتضح لي أنني وقعت ضحية احتيال، ولم تمر فترة حتى وقع صديقي ضحية المرأة وبناتها في مكان مختلف وعندما هممت بتحذيره فرت هاربة بعد تعرفها عليّ.
}طبيبة وموظفة في مصيدة الاحتيال
كل من “سلمى محمد” (طبيبة) و”أمل عمر” (موظفة) رسم قدرهما أن تكونان ضحايا احتيال ولكن ذات القدر الذي أوقعهما، هو نفسه الذي أنقذهما في اللحظات الأخيرة ليجمعهما بذلك ضمن قوائم المحتالين عليهم مع اختلاف قصصهم. 
كانت سلمى في طريقها لتسليم مبلغ من المال قدره (10) آلاف جنيه لسيدة برعت في ادعاء الفقر وفقد المأوى وضياع أطفالها مما حدا بها تصديقها والإسراع في جمع المبلغ الذي يحميهم من الضياع، ولولا الصدفة وإرادة الله التي كشفت لها حقيقة تلك المرأة التي تبين لها أنها ليست سوى معتادة احتيال، لكانت خسرت أموالها كما خسرت دموعها التي ذرفتها تعاطفاً معها.
أما “أمل” فلم تستطع تمالك نفسها من البكاء وهي تستمع إلي (…) التي قصدت المؤسسة التي تعمل بها طالبة للعون والمساعدة وتسرد الوضع المأساوي الذي تعيشه مع زوجها وكيف أنه قام باغتصاب (ابنتها) مما دفعها أي ـ ابنتها ـ للجنون بحد ادعائها.
تمكنت “أمل” في ذلك اليوم من جمع مبلغ فاق الـ (400) جنيه سوداني لتلك السيدة حتى تتمكن من شراء علاجات مهدئة لأعصاب ابنتها بعد أن طلبت هي ذلك، ووعدتها بالعودة مجدداً لإكمال المبلغ حيث إن ثمن العلاجات يفوق مبلغ الـ (700) جنيه، ولكن إرادة الله شاءت أن يتعرف عليها أحد الموظفين تقابل معها في إحدى المؤسسات، مؤكداً أن ما تدعيه ليس سوى كذب اعتادت عليه.       
}غياب الإحصائيات
تظل الروايات آنفة الذكر نقطة في محيط حياتنا الاجتماعية التي أصبحت مليئة بالكثير والمثير من الظواهر الغريبة في ظل غياب للإحصائيات، فقد أكد مصدر بشرطة أمن المجتمع، كثرة وتنوع الأساليب الاحتيالية، مشيراً لـ(المجهر) إلى عدم وجود إحصائيات حقيقية في هذا المجال نسبة لتغير مواقع ممارسي الاحتيال والتسول من مكان لآخر، وقال: هناك الكثير من القصص التي وثقنا لها بمقاطع فيديو ولكن تصبح الإشكالية الأساسية في عدم وجود أرقام وإحصائيات دقيقة، لأن المحتال أو المتسول يمكن القبض عليه في أكثر من مكان.
إلى ذلك اعتبرت الباحثة الاجتماعية “ثريا إبراهيم” الأسباب الاقتصادية والمشاكل النفسية هي إحدى المسببات التي تقود لمثل هذه الأفعال، مشيرة إلى أن الشخص المتعفف يصعب عليه مد يده، وأكدت لـ(المجهر) أن غياب السياسات الاجتماعية ساهمت في مثل هذه الظواهر التي اتخذها بعضهم وسيلة لجني المال، وقالت: التسول من الممكن أن يكون مرة أو اثنتين لكن أن يكون بصورة يومية فهذا يتطلب عمل مسوحات وحصر مناطق المتسولين ومعرفة ما إذا كانوا محتاجين أم لا، وزادت: المتسول لو تعوّد على التسول وتحسنت ظروفه فسيصبح محتالاً.

استشاري الطب النفسي وأستاذ الصحة النفسية بروفيسور “علي بلدو” أرجع انتشار ظاهرة (التسول الاحتيالي) لتردي الحالة النفسية للمواطن وتفاعله مع  الكثير من العوامل والتحولات التي اعترت المجتمع السوداني مؤخراً في ظل الانفتاح الكبير وحالة الانتقال الأخلاقي والشعوري التي يعيشها الكثير من المواطنين بحد تعبيره، مؤكداً لـ(المجهر) أن المحتال تدفعه نوازع الرغبة ومحاولة استدرار العطف وجذب الانتباه جنباً إلى جنب مع حسن اختيار الضحايا ونسج القصص المؤثرة للعب على مشاعر المواطنين أو ضحاياه، لافتاً إلى أنه أي ـ المحتال ـ  يتمتع بقدر عالٍ من الذكاء والقدرة على الأداء لدرجة أن الكثيرين يقعون في حبائل شخصيته (السايكوباتية) ذات النزعات المضادة للمجتمع والمتنافرة والمتباعدة عن الأعراف والتقاليد، وقال: المواطنون الذين يلقي بهم حظهم العاثر في طريق المحتالين المتسولين فإنهم يتعاملون بقيم العطف والشعور بالترفع وروح الشهامة والكرم التي يحركها الأداء الدرامي للممثلين المحتالين، وزاد: المحتال يقوم بحياكة السيناريو بطريقة يصعب معها على الضحية عدم إعطائه المال حتى وإن ساوره شك، سيما السيناريوهات التي تتعلق بـ (كفن الميت ـ  الدواء ـ الطعام)، ويجب علينا التأكد أنه في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة وتفشي العطالة والتداخل السكاني الرهيب بين المدن والقرى، فإن الفترة تعد عصراً ذهبياً للاحتيال والتسول، وتبقى القصص المؤثرة الوهمية واصطحاب الأطفال المزورين وغيرها الضربة القاضية للمواطن العادي.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية