تحقيقات

أزهر الخرطوم الشريف ...: الجامع الكبير .. مقصد الطلاب وبيت المعوزين

الخرطوم- سفيان نورين

يتوافد إليه يومياً آلاف المواطنين بمختلف فئاتهم ومشاربهم المُتعدِّدة، وتتمظهر بداخل مسجد الخرطوم الكبير، لوحة مُلوّنة من السودان المُصغّر، حيث يؤمّه لفيفٌ من المصلين، وطلاب العلم، والمشردون، وأصحاب الأعذار، والمقعدون، الذين يعد المسجد محرابهم الروحاني ومأواهم الذي يقيهم الحر والبرد، بل يتعدّى ذلك ليجد المتعففون فيه من يقضي احتياجاتهم من الخيِّرين، فضلاً عن أن المسجد يُعد بمثابة ملتقىً لأهل المهن المُختلفة.
(المجهر) رابطت بالمسجد منذ طلوع الفجر، فرصدت الكثير من الصمت وبعض الحراك، الذي يدور داخل فناء المسجد وخارجه، كما التقت خلال جولتها، عدداً من الأئمة والمُؤذِّنين، ومن تَعَاقبوا على عضوية لجنة المسجد، فوصفوا شكل الحياة في المسجد العتيق:
والساعة تشير إلى السادسة صباحاً لم يكن بداخل المسجد أكثر من مئتي شخص من المصلين الراتبين وبضع حلقات العلم وتلاوة القرآن الكريم، إلى جانب مجموعات قليلة توزّعت هنا وهناك على طول وعرض ساحات المسجد الخارجية “البرندات”، يدور مُعظم نقاشهم عن الأوضاع اليومية قبل الذهاب لمُزاولة أعمالهم.
بدأ التوافُد إلى باحة المسجد التي يُوجد بها بعض المُتسوِّلين وأصحاب الأعذار، خَاصّةً من المصلين المسبوقين الذين ينتشرون بأماكن “الوضوء” بالناحية الجنوبية الغربية للمسجد، فضلاً عن الحركة الدؤوبة لبائعي الشاي الجائلين وغسالي المركبات وماسحي الأحذية.
وكان لافتاً لـ(الصحيفة) خلال تجوالها بالمسجد، وجود عددٍ من الأشخاص يغطون في نومٍ عميقٍ بمصلى الإمام مالك، من بينهم طفل ورجل سبعيني مُستلقٍ أقصى المبنى وأمامه “جراب” يحمل بها أغراضه، وعند الاقتراب منه وتعريفه بهويتنا، امتنع عن الحديث واكتفى قائلاً “الحمدلله، المسجد ده بيتي”.
ومع اقتراب موعد صلاة الظهر يزداد التوافُد إلى المسجد ويرتاده المُصلون وطلاب العلم لأداء الصلوات وتلقِّي الدروس، مِمّا أجبر اللجنة في أوقاتٍ سابقةٍ على التفكير في زيادة سعة المسجد إلى 100 ألف شخصٍ لاستيعاب العدد المُتزايد يومياً من المُصلين، حيث يتحوّل المسجد يومياً عقب صلاتي الظهر والعصر إلى ما يشبه المعهد العلمي، حيث تتوزّع حلقات الدروس في الفقه والتلاوة والتفسير والقرآن الكريم، خاصّةً تلك الحلقات التي كان يُقدِّمها الراحل الشيخ بشير حسين الإمام المعروف بشعراوي السودان.
ويُحيط بالسور الخارجي للمسجد من الناحية الجنوبية، مكتبة المسجد ومجموعة من بائعي الكتب و”السبح”، إضافةً إلى مواقف لغسل المركبات الخاصّة، بينما بالناحية الغربية للسور يُوجد مُصلى النساء.
بينما نحن نتجوّل في باحة المسجد، التقينا محمد الوليد ماسح أحذية، فأوضح أنه ظلّ منذ ثلاث سنوات يعمل بالمسجد وعمارة الذهب، مبيناً أنه يأتي إلى المسجد مُبكِّراً لوجود زبائن مُوظّفين لم يجدوا وقتاً لمسح أحذيتهم، لافتاً إلى أنه عقب الساعة العاشرة صباحاً يذهب إلى العمل أمام عمارة الذهب، وتابع: “الشغل في المسجد مُعدِّل معانا تمام”.
ويعود تاريخ إنشاء الجامع الكبير بحسب عضو لجنة المسجد عباس إبراهيم في حديثه لـ(المجهر السياسي) إلى العام 1864 حتى 1898 إلى أن اكتمل تشييده من الحجر الرملي في العام 1902 في عهد خورشيد باشا، مبيناً أن المسجد ظل لنحو 120 عاماً، أحد المَعَالِم المعماريّة والأثرية البارزة في قلب العاصمة الخرطوم، لكونه المسجد القومي الأول في البلاد. وأشار عباس إلى أن الأعداد الكبيرة من المصلين أصبحت تفوق سعة المسجد، خَاصّةً في أوقات صلاتي الظهر والعصر، رغم عمليات التوسعة التي تمّت مُؤخّراً، لافتاً إلى مساعٍ لإجراء بعض الإضافات الخارجية لتسع العدد المتزايد من المصلين ومرتادي المسجد. ونوه إلى بعض الاحتياجات التي يتطلبها المسجد في الصيانة والتوسعة الخارجية، خاصّةً مع اقتراب شهر رمضان المُعظّم، الذي يزداد فيه عدد مُرتادي المسجد لحضور حلقات العلم، إلى جانب تناول الإفطارات الجماعية.
ضمن حلقات الدروس الراتبة التي تُقام بالمسجد، التقينا الشيخ دفع الله أبو القاسم “شيخ الحلقة”، الذي أوضح أنّه تخرّج في ذات مسجد الخرطوم الكبير حتى أصبح أحد مشايخ حلقات العلم الشرعي الراتبين، باعتبار أنّ المسجد الكبير يمثل أزهر السودان ومكاناً ينهل منه الطلاب العلم والدروس الشرعية. ونوه إلى أن المسجد تخرّج فيه كبار الأئمة والدُّعاة بالبلاد في شتى التّخصُّصات، وأنّ المسجد خلال فترة الثمانينات كان يعج بحلقات العلم التي تُقام في باحة المسجد ويُديرها المشايخ يوسف العسيلات ومحجوب أحمد صديق، قبل أن يتناقص ذلك العدد، وزاد: “كان لا تجد فرقة لكي تجلس”. ولفت إلى أن حلقات العلم داخل المسجد تضم طلاباً من دول سوريا، العراق، اليمن، أفريقيا الوسطى وإثيوبيا، مُبيِّناً أنّهم يحرصون على المواظبة في حضور تلك الحلقات، إلى جانب طلاب جامعتي أم درمان الإسلامية والقرآن الكريم، مُنوِّهاً إلى وجود نحو 20 حلقة علم وتفسير وتلاوة القرآن تُقام يومياً بالمسجد، وتابع: “اهتمامنا بهذا الصرح وتعميره يعني اهتمامنا بديننا ونشر العلم الشرعي والأفكار السليمة”، بيد أنّه شكا من إهمال الأئمة والدعاة بالمسجد من قِبل السُّلطات، مُبيِّناً أنّه وبرغم ذلك مازال المسجد متماسكاً وعلماؤه مكابدين رغم الظروف.
بدوره، أشار المُؤذِّن صديق آدم محمد، إلى أنه ظل بالمسجد 17 عاماً منذ أن كان طالب علم يتردّد على المسجد حتى تم تعيينه مؤذناً، لافتاً إلى أنّ عدد المصلين يبلغ في وقت الصلاة الواحد أكثر من 2500 شخص دُون المسبوقين الذين يتوافدون عقب الانتهاء من الصلاة، ولفت آدم إلى أنّ المسجد ظلّ طوال فترته الماضية يفتقد التوثيق وتسليط الضوء على أنشطته وحلقات علمه لاستفادة طلاب العلم والباحثين، مُبيِّناً أنّ المسجد شهد مؤذناً من دولة جزر القمر وهو محمد عبد الله لمدة سبع سنوات، لافتاً إلى أنه طوال فترة عمله وحتى مُغادرته البلاد لم يُسلّط عليه الضوء، وأردف: “المُفترض كل مؤذن وإمام وعالم في هذا المسجد أن يُوثّق له”، وشكا آدم من ضعف مرتبات الأئمة والمُؤذِّنين بالمسجد، مُبيِّناً أنّها لا تتجاوز 3 آلاف جنيه والتي لا تكفي للرصيد أو المواصلات للوصول إلى المسجد، لافتاً إلى أن مرتبه 2400 جنيه عقب زيادات المرتبات الأخيرة، بينما أبان أن راتب الإمام 3 آلاف جنيه، وزاد: “فقط نحتسب عند الله”، وطالب بضرورة أن يجد العاملون بالمسجد مركبة أو ترحيلاً، لجهة أن الإمام الراتب يُكابد في المواصلات العامة وإن تأخّر عن وقت الصلاة تتم مُحاسبته، داعياً السلطات في أعلى مُستوياتها إلى الاهتمام بالأئمة وزيادة مرتباتهم، وتابع: “نُطالب بالشيء المُجزي فقط”.
من جانبه، يقول الإمام الراتب للمسجد الشيخ العالم محمد البدوي في حديثه لـ(الصحيفة)، إنّه ظلّ منذ سبع سنوات إماماً راتباً بالمسجد برفقة الأئمة إسماعيل التجاني وأبوكر موسى، لافتاً إلى أنّ المسجد تَعَاقَب عليه كبار العلماء والأئمة، منهم شيخ نورين، إسماعيل البزعي، أبوبكر موسى، محمود أبو بكر، إلى جانب مشايخ حلقات العلم: محمد محمود، محمد موسى العسيلاتي والراحل بشير حسين الإمام المعروف بشعراوي السودان، ونوّه البدوي إلى أنّ المُصلين وطلاب العلم يتوافدون إلى المسجد منذ وقت الفجر لأداء الصلوات وتلقِّي العلوم الشرعية، منوهاً إلى أن ما يميز مسجد الخرطوم الكبير أنه يجمع كل أهل القبلة دُون تمييز لجماعة دينية عن الأخرى.
وفي أثناء الحديث مع الشيخ العالم، كان لافتاً تَردُّد حاج ثمانيني ذهاباً وإياباً إلى غرفة بالناحية الجنوبية الشرقية داخل المبنى الرئيسي للمسجد، وعند سؤالنا عنه، تبيّن أنه خفير المسجد العم خليفة عبده، ذهبنا إليه بغرفته التي تحوي كثيراً من مقتنيات المسجد، حيث أخبرنا بأنه التحق بالمسجد منذ العام 1951 قبل اكتمال تشييد المسجد الذي كان يبسط حينها بـ”البروش” ولم يتجاوز عدد المصلين الراتبين فيه الصفين.
وأوضح العم خليفة لـ(المجهر)، أنه تمّ تعيينه من قِبل الحاج سرور بـ4 قروش إبان عهد الاستعمار الإنجليزي، ومن ثم تضاعف راتبه إلى طرادة (25 قرشاً)، كاشفاً بأن أول إمام للمسجد هو الشيخ عبد الرحمن، ومن ثَمّ الشيخ محمد عمر، لافتاً إلى أن المسجد في بداية تأسيسه كان يتبع لوزارة الأوقاف ولم تكن به لجنة لإدارته، ونوه إلى أنّ الرئيس الأسبق إبراهيم عبود هو أوّل من طلب إنشاء لجنة للمسجد تم تكوينها برئاسة د. سليمان دهب، الذي وفّر “فرشات ومراوح” للمسجد، بجانب التبرع بـ50 قرشاً لبناء الأجزاء التي لم يتم تشييدها، وإنّ مولانا السيد علي الميرغني تبرّع بـ100جنيه، وعبد الرحمن المهدي بـ200 جنيه، بينما أول بساط للمسجد تبرّعت به عدد من الدول العربية، وأشار إلى أن المساجد إبان فترة إنشاء مسجد الخرطوم الكبير لم تتجاوز الثمانية مساجد، أشهرها مسجد السيد علي الميرغني بمدينة الخرطوم بحري، لافتاً إلى أنّ المسجد مَرّ بمراحل توسعة مُتعدِّدة لاستيعاب زيادة عدد المصلين، مُنوِّهاً إلى أنّ المسجد في بدايته كان عبارة عن حلقات علم في باحته الخارجية بمُختلف الجنسيات حتى تم إنشاء معهد علمي، وزاد مُتحسِّراً: “الإنقاذ حوّلته إلى مسجد شروني”، ونوه إلى أنه منذ الأذان الأول لصلاة الفجر يبدأ التوافد إلى المسجد خاصّةً من المصلين الراتبين والعُمّال الذين يعملون بالقرب من المسجد، مؤكداً أن أبواب المسجد مفتوحة في كل الأوقات، وأنه يختلف عن المساجد الأخرى ولا تُغلق أبوابه عقب صلاة العشاء، مُبيِّناً أنّ المسجد يُمثِّل مَأوىً للمساكين وأصحاب الحاجة، وزاد: “أكلهم وشرابهم وكسوتهم بالمسجد، وعايشين في أمان الله”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية