الخرطوم منطقة أثرية.. يشهد بذلك التاريخ المعاصر
تنهض فوق حضارات عمرها أكثر من (17) ألف عام
أستاذ تاريخ وآثار: كل منطقة الخرطوم أثرية وذلك لوجود مخلفات أثرية حولها وداخلها
ـــ حفريات استكشافية سابقة أسفرت عن مدن وآثار ترجع لما قبل التاريخ الميلادي
ـــ الآثار: نحن بصدد تعديل القانون بحيث لابد من خلو طرف والتصديق للبناء من الهيئة أولاً
تحقيق ــ أمل أبو القاسم
تتواتر الشواهد – بين الحين والآخر – للتذكير، في كل مرة بأن الخرطوم وبتاريخها الضارب في الجذور ربما تحوي أرضها آثاراً ومستوطنات لم يتم الكشف عنها بعد والصدفة وحدها، في كثير من الأحيان، هي التي تخرجها إلى السطح، وهو ما حدث نتيجة لكثير من الحفريات التي أجريت في أراض بالخرطوم، في أوقات مختلفة، بغية البناء عليها سواء أكانت سكنية أو مؤسسات حكومية وغيره، وهو ما قال به عدد من الباحثين والمهتمين الذين تحدثوا لـ(المجهر) مستشهدين بعدد من النماذج التي تم الكشف عنها، لا يقتصر الأمر على شواهد وآثار العهود الحديثة من تاريخ السودان، وإنما يشمل ذلك حضارات ترجع لعهود سحيقة وجدت في الخرطوم قلبها ونواحيها.
اكتشافات سابقة
وهناك أمثلة كثيرة لتلك الحفريات، التي كشفت عن الكنوز الأثرية التي تضمها أرض الخرطوم، ومنها تلك الآثار التي وجدت في منطقة (السرحة)، والتي هي عبارة عن طوابٍ تعود لفترة المهدية، غير أن الموقع نفسه قد تمت فيه حفرية استكشافية بواسطة مجموعة علماء وخبراء في الآثار وعلم الأجناس أسفرت عن اكتشاف أربع مقابر أثرية تعود للعصر الحجري الحديث، وهياكل عظمية لإنسان تلك الحقبة، أثبتت أن هذه المنطقة كان بها استيطان للبشر، وكانت معروفة لديهم أنها من المناطق الأثرية في الخرطوم.
ولعل المنطقة الوحيدة التي يجري بها تنقيب هي “سوبا شرق”، وهي منطقة غنية جداً، وتخرج من حين لآخر كشفاً جديداً، كما حدث مع الجرة الضخمة التي تعود لـ500 عام والتي وجدت هناك جوار حائط من الطين الأخضر ومازال البحث فيها جارياً.
خيفة “الجرجرة ”
وفي الخصوص قال أستاذ الآثار والتاريخ بجامعة أم درمان الأهلية الدكتور “فتح العليم عبد الله” تعتبر كل منطقة الخرطوم أثرية، وذلك لوجود مخلفات أثرية حول وداخل الخرطوم مثل منطقة “الشهيناب” و”السروراب” ومنطقة “سوبا شرق”، التي تعج بالآثار المسيحية، إضافة إلى منطقة “العيدج”، التي وجدنا بها آثاراً مسيحية وإسلامية، والأخيرة تعود لعهد المهدية، أيضاً تم اكتشاف موقع أثري كبير تحت مستشفى (الخرطوم التعليمي)، وهو بحسب المعماريين عبارة عن ثلاث جثث محنطة وأزيار وقلل مصنوعة بالعجلة (بعد صناعاتها حتى لا تظهر آثار الأصابع تلف بالعجلة). والموقع يمتد من مستشفى (الأسنان) شرق إلى مستشفى (الذرة) غرباً، لكن المسؤولين وقتئذ كانوا مشغولين – على حد قوله – ولم يولوا الموضوع أدنى اهتمام، فطمرت الآثار وشيد المستشفى دونما الاهتمام بفحصها ودراستها أو التوثيق لها.
واستشهد دكتور “فتح العليم” بهكذا نماذج للعثور على آثار في مناطق متفرقة من الخرطوم، حيث سبق وأن عثر في منطقة أم درمان، عند حفر أسرة لبئر سايفون، عثر على مخلفات أثرية، لكنهم أحجموا عن التبليغ عنها خيفة أن تضع مصلحة الآثار يدها على المنزل، وتبدأ “الجرجرة”.
من جانبها قالت دكتورة “أماني نور الدائم” من شعبة الفلكلور والآثار جامعة أم درمان الأهلية، إن أقدم موقع في الخرطوم، والذي يطلق عليه “موقع الخرطوم القديمة” هي منطقة مستشفى (الشعب) حالياً، واحتمال إيجاد آثار فيها وارد، لكنها آثار عصور قديمة ما قبل التاريخ، ويمكن أن توجد في أي شبر من الأرض، بيد أن إمكانية العثور على تماثيل صعبة، لأنها تتأتى في “نبتة” و”مروي”، وإن وجدت فيمكن أن تكون آثاراً مسيحية تابعة لـ”سوبا”.
دلالات تاريخية
الباحث والمهتم بالآثار الأستاذ “راشد خيري”، الذي لم يستبعد في حديثه لـ(المجهر)، وجود آثار في منطقة الخرطوم، قال إنه وبحسب التاريخ، فإن المنطقة امتداد من النوبة وحتى عمق الخرطوم وإلى النيل الأزرق امتداد لسوبا، وبناء على إفادات سماعية من أهالي السديرة والنوبة، فإن المنطقة كانت مدافن ملكية، حتى أنها أقدم من سوبا، وعهدها يعود إلى “مملكة مروي”.
وأضاف “خيري” الراجح ــ أن المنطقة بحسب جغرافية السودان، منطقة الخرطوم من جبال النوبة وحتى سوبا، سكنت مدة (23) ألف سنة ووجدت بها آثار.
أيضاً الباحث والناشط في تاريخ السودان الأستاذ “محمد أنور” رجح كفة احتمال وجود آثار بالخرطوم معتمداً في حديثه على دلالات تاريخية، فابتدرنا بخلفية بين خلالها تسلسل الحضارات في وادي النيل، بأن الحضارات بدأت جنوباً واتجهت شمالاً، وحدث لها تراجع بعد الميلاد، حيث تكونت ممالك ثانية، مثل مروي، مضيفاً أنه من المعلوم أن بداية عهد الأسرات، الذي يبين أن التاريخ الفرعوني المصري بدأ مع الملك “مينا” الذي أتى من الجنوب وحتى وادي النيل، وتكونت أكبر مملكة قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، بعدها بدأ تاريخ الأسرات. وكل ذلك كان في “طيبة الأقصر” وهي الأقرب للسودان، إذن هناك أراضي جنوب هذه المناطق تكونت فيها حضارات، بمعنى أنها مجتمعات عرفت كيف تنظم شكل المجتمع، من ناحية سياسية واجتماعية، بدليل تقدمهم شمالاً وإنشاء حضارات عظيمة قائمة على النقوش والنحت.
الأدلة الاركولوجية
وبرر “أنور” حديثه بأنه يهدف مما سبق إلى إمكانية وعدم استبعاد وجود حضارة في المنطقة، والحضارة مؤرخ لها منذ (كوش) وهو متأخر عن تاريخ شمال الوادي، ويحتاج مراجعة بحسب الأدلة الاركيولوجية التي تقول إن أغلب الفراعنة عنصر أفريقي، وممالك كوش التي أرخ لها 2600 قبل الميلاد، وكذا كرمة، أما مروي 300 قبل الميلاد، مشيراً إلى أن “كارلوس بوهين” الذي ما زال بـ”كرمة”، يعتقد أن “مروي” أكبر وأقدم من “كرمة”، وهي أول مدينة في التاريخ، لافتاً إلى أن منطقة الخرطوم ليست بمستبعد وجود آثار فيها، لأنها لا تبعد كثيراً عن “مروي”، والكشف الأخير الذي أجري قبل سنتين من قبل البعثة البولندية، كشف عن حضارة في منطقة (القماير) عمرها (17) ألف سنة، هذا بخلاف الآثار بمستشفى الشعب، والتي لم تجد حظها من الدراسات.
إنسان أبو عنجة
وشدد محدثنا على أن “مروي” و”البجراوية” معقل الآثار السودانية تبعدان عن الخرطوم بحوالي 150 كلم، وأن كل السودان الشمالي الحالي هو امتداد لـ”مروي”، بدليل العثور في منطقة “الوليس” جنوب الخرطوم على مدينة تابعة لـ”علوة”، أيضاً هناك آثار مدينة وجدت في “الكوة”. وبكل أسف ـــ الحديث ما زال للناشط أنور ــ كان ذلك بصفة فردية من قبل طالبة دكتوراة، أيضاً جنوب الخرطوم، بين سنار وكوستي، حيث وجد كبش مروي. ولا يفوتنا أن الآثار التي وجدت في (خور أبو عنجة)، والتي أطلق عليها (إنسان أبو عنجة)، ومعه كل مستلزماته من حراب وأدوات منحوتة بحيث تخدمه، وأُرخ لها بـ(13) ألف سنة، فضلاً عن الآثار التي وجدت في منطقة الجموعية بأم درمان، وتلك التي بـ”أربجي”.
التاريخ ملك للجميع
ومن ناحية جيولوجية بحسب الناشط في تاريخ السودان الأستاذ “محمد أنور”، أن مقرن النيلين لم يكن في مكانه الحالي، بل كان إلى الجنوب وبتحركه خلف تراكمات ترابية، وأثبتت الدراسات أن المقرن كان جنوباً، لذلك فإن الجزيرة تتمتع بخصوبة أراضيها، وبالتالي فهي جزء مما يسمى بـ(جزيرة مروي).
من الهيئة العامة للآثار
وتأسيساً على تلك الحقائق، قال مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف الدكتور “عبد الرحمن علي” لـ(المجهر) إنهم بصدد تعديل القانون بحيث أن كل من يرغب في بناء قطعة أرض لعمق بعيد، عليه استصدار إذن أولاً وخلو طرف من الهيئة العامة للآثار والمتاحف.