أنهم يهدمون التاريخ…!!
في خبر منشور بالصفحة الأولى من هذه الصحيفة أمس يقول إن الصندوق القومي لرعاية الطلاب بولاية الخرطوم نفذ عمليات إزالة لخمس بنايات بداخلية الزهراء (البركس) بعد أن أكدت الدراسات التي قام بها فريق هندسي متخصص وجود العيوب الإنشائية بها التي تجعلها آيلة للسقوط.
إلى هنا نكتفي بالخبر، لكن نقول لتلك الجهة الهندسية هل من حقها اتخاذ قرار في معلم يعدّ تاريخياً ولا يمكن اتخاذ القرار فيه بانفراد دون الرجوع إلى الدولة، لأن كلمة (بركس) التي استبدلت بداخلية الزهراء تحمل كثيراً من المعاني والذكريات.. كل من درس بجامعة الخرطوم، عندما يسمع كلمة (بركس) يقشعر بدنه لتلك الكلمة، فقد شهدت تلك الداخليات أحداثاً ما زالت راسخة بالذاكرة، بل ستظل في المخيلة أبد الدهر.. لذا كان من المفترض قبل هدم تلك الداخليات الرجوع إلى الجهات العليا، وتحتار الدولة في اختيار مواقع أخرى لإقامة داخليات لسكن الطالبات أو الطلاب، لكن محو التاريخ يعدّ جريمة لمن لا يعرفون تاريخ الأوطان، فالسودان دولة مليئة بالتاريخ وعبقه ومليئة بالآثار التي لا يهتم بها أحد فتسرق نهاراً جهاراً وتهرب إلى دول أخرى، ولم نسمع بمعاقبة شخص قام بسرقة الآثار السودانية وباعها للأجنبي.
إن داخلية الزهراء أو (البركس) هي معلم تاريخي وليس من السهل الاستغناء عن التاريخ بحجة أنه آيل للسقوط.. لماذا لا ترمم الداخلية؟ أولئك المهندسون يعرفون كيف ترمم المباني في حالة أيلولتها للسقوط حتى يبقى المعلم التاريخي، وهناك كثير من المنازل بمنطقة أم درمان تجاوز عمرها تقريباً المائة عام وما زال أهلها محتفظين بها رغم التطور العمراني.. أذكر عندما أجرى الأستاذ “عمر الجزلي” حلقات من برنامجه (أسماء في حياتنا) مع السيدة “فاطمة أحمد إبراهيم” وانتقلت الكاميرا معها إلى مكان ميلادها والمنزل الذي نشأت وترعرعت فيه.. سكبت الدموع وبدأت تسترجع ذكريات من حياتها.. طفولتها ووالدها ووالدتها وأخوتها.. تاريخ طويل من حياتها كان بالمنزل.. فإذا اختفت معالم المنزل لما استطاعت أن تسقط دمعة واحدة من عينيها، فالتاريخ يعيد الإنسان إلى الماضي، لذلك ينبغي على الجهات المسؤولة ألا تقدم على أية خطوة لمحو تاريخ هذا البلد.
في فرنسا لا يستطيع مسؤول اتخاذ قرار في مسألة متعلقة بتاريخ الدولة حتى طلاء جدران المباني الحكومية لا يتم إلا بعد استفتاء المواطنين.. وفي بريطانيا ما زالت المباني القديمة تقف شامخة ولم يطرأ عليها تجديد أو تحديث، لكن الدولة أقامت مباني جديدة وفقاً للتطورات التي يشهدها العالم الحديث، لكن لا أحد يقدم على تغيير المعالم التي تحفظ التاريخ.
منذ أن جاءت الإنقاذ كل شخص يعمل بمفرده، فضاعت المعالم إلا المعالم التي لا يستطيع أحد المساس بها مثل الطوابي بالقرب من النيل، وهذه محمدة لمن قام بتسويرها والحفاظ عليها كشيء تاريخي.. المدارس التي أنشئت منذ نصف قرن من الزمان (المدرسة الأهلية أم درمان) هدمت وأنشئت مبانٍ حديثة، وضاع تاريخها، وكذلك مدرسة (ود نوباوي) الابتدائية (أ) وكثير من المدارس التي تحمل تاريخاً هدمت.
لا يوجد أحد لا يريد التحديث أو مواكبة العصر، لكن الماضي لن يعود، والتاريخ جزء من حياة الناس لا بد من الحفاظ عليه.