الأطباء يهاجرون ولا حياة لمن تنادي!!
في ثمانينيات القرن الماضي حينما بدأت هجرة الأطباء العموميين والاختصاصيين إلى المملكة العربية السعودية وهي أكبر دولة كانت تستقبل الأطباء السودانيين، أصدر رئيس الجمهورية “جعفر نميري” قراراً منع بموجبه هجرة الأطباء لأنها كانت وقتها ظاهرة، فلا يمكن أن تكتف الدولة يديها وتترك الحبل على الغارب، فكان قرار المنع، ولكن حتى قرار المنع لم يوقف هجرة الأطباء السودانيين، فكان هناك تحايل على ضباط الأمن بالمطار حتى الطبيب كان يسافر بالملابس التي يرتديدها بعد أن يؤمن له جانب السفر بالواسطة التي تقوم بإكمال كل الإجراءات ومن ثم توصيله إلى سلم الطيارة، بمعنى أن الطبيب المهاجر لا يحمل معه أية (شنطة) ولا يقف في الميزان لوزن عفشه.
اليوم بدأت هجرة آلاف الأطباء من السودان إلى المملكة العربية السعودية وإلى دولة الإمارات وإلى قطر وإلى ليبيا، وذكر خبر نشرته (المجهر) في صفحتها الثانية أمس أن عدداً كبيراً من الكوادر الطبية والكفاءات النادرة بوزارة الصحة بدأت في المغادرة، من بينهم الدكتور “محمد عثمان” المنسق الوطني لبرنامج الايدز الذي تم تعيينه مديراً للمشروعات بالبنك الدولي، والدكتور “مجدي صالح” مدير برنامج التحصين في طريقه إلى مغادرة البلاد إلى المملكة العربية السعودية، والدكتورة “هبة كمال الدين” المنسقة الوطنية لبرنامج الدرب، والدكتورة “حياة صلاح الدين” مدير إدارة الوبائيات في طريقها إلى الهجرة، ودكتور “مصطفى صالح” مدير عام التأمين الصحي في طريقه إلى الهجرة.. هذه تعد من أكبر الهجرات للأطباء السودانيين، ولكن لا الدولة سألت ولا وزير الصحة الاتحادي أو الولائي كأنما الأمر لا يعنيهم، وربما يقول الدكتور “مأمون حميدة” وأصلاً هو (زهجان) من الأطباء (الواقفين ليه في حلقه) بسبب سياساته وتجفيفه للمستشفيات، قد يقول أراحنا الله منهم.. وهناك آلاف الأطباء الذين يتخرجون ولم يجدوا فرص عمل فتستوعبهم في الأماكن الشاغرة، ولكن إذا كانت الدولة غير مهتمة بهجرة الأطباء فليحزم البقية أمتعتهم، وعشرات الدول محتاجة إلى خبرتهم.. والخاسر في النهاية الوطن الذي لم يحافظ على كوادره التي صرف عليها دم قلبه.
الأطباء يعتصرهم الألم حينما يعجزون عن إيجاد المعدات الطبية لمعالجة مرضاهم، والمال ليس هو السبب الرئيسي لتلك الهجرة المنظمة من قبلهم، ولكن السبب أولاً عدم وجود معدات طبية كافية.. وثانياً الإهمال الشديد من جانب الوزارة.. أما المال فيأتي في آخر قائمة الطلبات.. والطبيب المهاجر يجد في الدولة التي يذهب إليها معدات طبية متطورة وبيئة عمل ممتازة ومال وفير يساعد على ظروف الحياة.
فالأطباء بالخارج يشرفون السودان، وبريطانيا وحدها تستقبل آلاف السودانيين، مما مكنهم من زيادة حصيلتهم العلمية وولوج تخصصات نادرة في المجال الطبي.. وفي النهاية سيعودون لأرض الوطن ويستفيد الوطن منهم.. لكن الدولة نائمة في العسل وكأنما الأمر لا يعنيها.. والهجرة لم تكن قاصرة على الأطباء فمعظم الجامعات بدأت تخلو من الأساتذة، وهذا يعني أن المستوى التعليمي الجامعي سينخفض وسيحل بديلاً لأولئك أصحاب الشهادات إياها، ومن ثم سنحصل على طلاب ضعيفين، وأساتذة أضعف.. فأنقذوا الموقف أيها السادة قبل فوات الأوان.