ماذا بعد؟!

صديق العمر..!!

ضرب الركود مختلف مفاصل الحياة المصرية بسبب التحولات السياسية المتسارعة التي عاشتها وما زالت تداعياتها ماثلة حتى الآن.. تراجعات على كل المستويات وخاصة الاقتصادية منها.. عدا الدراما التي ظن الناس أنها لن تقوم لها قائمة قريباً فإذا بالدراما المصرية وخلال رمضان الحالي تعود بشكل لافت.. عشرات المسلسلات يتم ضخ حلقاتها يومياً على مدار بث الفضائيات العربية.. النجوم القدامى والجدد يتصدرون الواجهة.. والاستقطاب لمشاهير التمثيل في سوريا يتواصل.. لا شيء يمكن أن يوقف تمدد هذه الدراما التي تجاوزت خبرتها أكثر من قرن اكتسبت من خلاله مناعة قوية ضد الانحسار وحصانة متينة من التراجع.. صحيح أن قياسات الجودة النوعية لم تكن في صالحها دائماً لكن على مستوى الكم الإنتاجي ظلت غير مسبوقة مقارنة بأقطار عربية أخرى لم تتجاوز حصتها عُشر ما تنتجه الدراما المصرية.
في رمضان الحالي.. واصل “عادل إمام” إطلالته التلفازية السنوية من خلال مسلسل (صاحب السعادة).. فنجح في الحفاظ على الظهور الرمضاني لكن مسلسله يتعرضُ لنقدٍ شديد وإلى حد وصفه فيه البعض بالركاكة والإسفاف.. أما “يحيى الفخراني” الذي ظل يمثل فاكهة الدراما الرمضانية في كل عام فقد حاول هذه المرة الظهور بشكلٍ مختلف من خلال مسلسله (دهشة) الذي قد لا يبدو من عنونته مستجيباً لأنماط الفرجة الرمضانية بقدر ما ينسجم مع مناخات شديدة التعقيد وقد تحتاج لصبرٍ يفقدها اللذة لكنه ربما يمنحها الدهشة لاحقاً.. وفي الوقت الذي تتقاصر فيه نجومية سيدات الشاشة الرمضانية أمثال “ليلى علوي” و”يسرا” و”إلهام شاهين” تلتمع ضمن حلقات مسلسلات هذا العام كوكبة من النجمات الصاعدات بقوة ليشكلن منافسةً حاميةً بين المنتجين الذين أصبحوا يدورون في فلكٍ واحد وهو تصوير كواليس وخفايا الحياة المصرية مع احتفاء أشبه بالسياسي بالهامش والمهمش ضمن التركيبة المجتمعية المصرية.
مغادرة أجواء القصور الفخيمة والفلل الراقية تمثلت في أكثر من عمل مثل مسلسل (سجن النساء) و(الوصايا السبع) و(ابن حلال) وغيرها من أنماطٍ تجد الآن نقداً حاداً من قبل المثقفين المصريين الذين يتهمون منتجيها بأنهم يشوهون الحياة المصرية ويعرضون صورة قاتمة للمجتمع المصري ويتصيدون عن عمدٍ أخطائه وسلبياته بحثاً عن الإثارة ومن ثم التسويق.
ما يمكن الاتفاق عليه حتى الآن أن الروح السائدة في الدراما المصرية تغلب عليها بالفعل الأجواء الجنائزية السوداء وتستبطن التحولات السياسية الراهنة من خلال إسقاط مجتمعي فيه الكثير من المبالغة حيناً وعدم اتضاح الرؤية أحايين أخرى، غير أن الشكل بعيداً عن المحتوى ربما حالفه التوفيق خاصة في الجانب الإخراجي أولاً الذي يقدم وجوهاً لم تكن لها السطوة والبريق في الدراما التلفزيونية منهم القادمة من نجاحات سينمائية مستحقة المخرجة “كاملة أبو ذكرى” في الوقت الذي ترجل فيه كبار المخرجين التلفزيونيين القدامى ممن وقعوا بامتياز على النسخ الرمضانية الخالدة (ليالي الحلمية) و(أرابيسك) وغيرها من أعمال تفوقت شكلاً ومضموناً.
أما المسلسل الذي نعتقد أنه (متعوب) عليه إنتاجياً بالفعل وحمل اجتهادات واضحة على مستوى الكتابة والتمثيل والإخراج فهو مسلسل (صديق العمر) الذي يسعى لتوثيق حقبة مهمة من الحياة السياسية في مصر وخاصة تلك المرتبطة بالزعيم “جمال عبد الناصر” والمشير “عبد الحكيم عامر”.. بالتركيز على مرحلة الوحدة العربية بين القاهرة ودمشق وما تلاها من تداعيات على المشهد السياسي العربي بكامله.. وهي محاولة تأتي في أعقاب تجارب سابقة احتفت بزعامات سياسية مثيرة للجدل، فيما تأتي هذه المرة مشوبة بالمخاطر بسبب عدم الاتفاق التاريخي القاطع على بعض الأحداث والمواقف، بالإضافة إلى أن المسلسل اصطفى هذه المرة المشير “عبد الحكيم عامر” ليكون الشخصية المحورية في العمل، وهو رجل انقسم الساسة حوله وتقاطعت الروايات التاريخية التي تناولت سيرة حياته ليظل شخصية درامية جديرة بالاهتمام وثرية بالأبعاد التي يمكن توظيفها لصالح الدراما في حال أن تجاوزت الوقوع في فخ المغالطات التاريخية أو عدم ممارسة الحياد الموضوعي لسبب سياسي أو آخر.
وقبل أن يستكمل مسلسل (صديق العمر) حلقاته تفجرت الأزمة المتوقعة، فتحدثت الصحف عن دعاوى من أقرباء المشير “عامر” في طريقها إلى المحاكم لإيقاف المسلسل.. وليس أقرباء “عامر” وحدهم الذين سيطرقون فيما يبدو أبواب المحاكم، بل هناك كثيرون ربما متضررون من تناول المسلسل لشخوص تربطهم بهم صلات القربى أو حتى الانتماء الفكري والسياسي.
العاصفة لم تصبح هوجاء بعد والمسلسل ما زال يعلن عن نفسه في كل يوم، وزوبعة محاولة إيقافه تتكرر كل عام مع هكذا مسلسلات تتصل بالسيرة الذاتية للأبطال ومعظمها لم ينجح في استصدار أحكام بالإيقاف، وإنما وفرت لها دعاية مجانية وشهرة إضافية لتستقطب بذلك الجماهير الذين يلتفون غالباً حول الأعمال المثيرة للجدل.
مسلسلات بالجملة وعلى رأس كل دقيقة يطل عمل جديد، والناس المتسمرة أمام شاشات التلفزة تمارس اللهاث المجاني بالريموت كنترول وراء العناوين الدرامية المحتشدة بحثاً عن عملٍ يستحق تزجية الوقت ومضيعة الزمن، في شهرٍ يتحول كل عام إلى (أوكازيون) للمسلسلات الرمضانية التي تسجل أهدافاً كثيرة لصالح الكم، بينما تتراجع كثيراً أيضاً على صعيد المضمون والمحتوى.. فماذا سيكون يا ترى مصير (صديق العمر)؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية