ماذا بعد؟!

حلو مر..!!

لولا المرّ لما عرفنا طعم الحلو.. الأصل أن يكون الحلو حلواً والمرّ مراً.. التحية للعبقرية السودانية التي نجحت بامتياز في الجمع بين الحلو والمرّ.. ولأن الحاجة أم الاختراع، فلم يكن مدهشاً أن تتجلى هذه الثنائية في مشروب طيب المذاق متفرد النكهة.. علاوة على غرابة التسمية التي لا تنفصل عن مناخات الحياة السودانية الخالصة، حيث يتوازى الحلو والمرّ في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة كافة.. فنحن شعب نشقى بمقدار ما نسعد.. ونحزن بمقدار ما نفرح.. وهكذا دواليك ظلت أحلامنا المشروعة تراوح ما بين السعادة والتعاسة.. الآن فقط يمكن أن نجد تفسيراً لحالة الصبر الممدود التي ظلت ترافق المواطن السوداني وهو يتجرع في كوب واحد المذاقين معاً.. الحلو والمرّ.. من يستسيغون ثنائية الطعم مؤهلون تماماً لاستساغة حياةٍ بكامل حلوها ومرّها.

(حلو مرّ) بضاعتنا للعالم زهيدة القيمة.. نحملها في أسفارنا وترحالنا نعرضها للآخر المختلف.. نمارس من خلالها طقوس الدهشة المفقودة وكل الكرم السوداني الذي ظل يجود بالموجود.. اشربوا شرابنا ومن بعد ذلك اسألونا ما هذا.. ولماذا أطلقتم عليه (الحلو مرّ).. ألا يستحق من أطلق هذه التسمية وسام الجدارة بامتياز؟؟ في أية رقعة من هذه الأرض الشاسعة تكون.. وفي أي زمن من أزمان المهلة السودانية تفتقت عبقريتك لإعلان ميلاد هذا الاسم الاستثنائي.. رجلاً كنت أم امرأة.. أم ذاكرة شعبية تجلت في لحظة مفصلية واحدة وأنتجت أنشودة رمضان على كل الألسنة وفي كل الموائد.

(حلو مر).. مذاق بطعم ولون ورائحة لا تشبه إلا نفسها.. ولا يعرف خلطتها السحرية ألا أناسها.. المجبولون على فلسفة البدائل وامتلاك المتاح.. هي قناعة البسطاء ووسيلة الزهاد وهم يغامرون بتوزيع الفرحة المجانية على الأمكنة والأزمنة.. إرث تواصل لحقب متوالية لم تستطع سطوة التقدم والتطور أن تمحوها أو تكتب عليها الفناء.. ربما انحسرت بعض الشيء أو توارت هنا وهناك، لكنها حاضرة في كل شهر كريم ومتمركزة في قلب الموائد الرمضانية بذات الصيغة والشفرة ونفس الملامح والشبه.

طقوس احتفالية بتوقيع سوداني خالص.. قبيل إطلالة الهلال يتجمعن جارات الحي في بيوت تتسع لـ(العواسة) بشكلها الفريد.. يتحلقن حول الصاج.. يرسمن لوحة (الحلو مر).. يزخرفن المشهد بمشروب مؤهلٍ تماماً لإطفاء الظمأ وفتح الشهية للحياة، وربما تمجيد السودانوية في بحثها الدؤوب عن هوية جامعة.

ليس عندنا الكثير نهديه للآخرين رغم أننا نملك الكثير.. فقد أقعدتنا مرارات السياسة والاقتصاد فلم نجد للحلو سبيلاً إلا من خلال ذات الكوب الذي لا نصف له بل يتداخل أعلاه بأسفله في خلطة واحدة هي الحلو والمرّ.. الآن فقط ربما نعرف لماذا لم تقبض قراءتنا للنصف الفارغ من الكوب على أرواحنا، حيث النصف المليء ظل دائماً يتبنى مهمة إيهامنا بأن أكوابنا كلها مملوءة إلى حد التدفق.. (الحلو مر) هو من ظل يهدينا الأمل بلا حدود ويستلهم قدرتنا على الصبر الجميل..!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية