تحقيقات

تاريخ صناعة السينما في السودان …. أسباب التوقف ومعوقات الإنتاج

لم يكن هنالك من شغل شاغل لـ»صلاح الدين»، وأبناء جيله في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أكثر من انتظار أوقات المساء للخروج من مناطق الديوم الشرقية وأطراف الخرطوم، والذهاب لدور السينما وسط العاصمة لتلقف آخر منتجات الأفلام الغربية والأجنبية والعربية وقضاء أوقات جميلة مع الصحبة والأسر. لكن الناظر إلى دور السينما اليوم في العاصمة ومعظم المدن السودانية يجدها قد تحولت لأطلال ومبانٍ مهجورة إن لم تكن مكبا للنفايات بعد أن كانت مراكز للإشعاع الثقافي والفكري والترفيهي يتبارى في الذهاب إليها متداعون من كل حدب وصوب بعد أن كانت مشاهدتها حكراً على طبقات بعينها. وهي تمشي جنباً إلى جنب مع المقاهي المتاخة لدورها.
وبعد التاريخ الطويل والناصع لصناعة السينما في السودان بوصفها صرحاً شامخاً لكنه وبمرور الوقت بدأ الانهيار وتناثرت لبناته إلى أن اختفت تماماً، تساؤلات عدة لوحت في أفق الثقافة الآن عن أسباب ذلك، وما إن كانت هناك إمكانية لإعادة هذا الصرح الثقافي الذي ساد زمناً، وعطفاً على تاريخها حققت (المجهر) في ذلك مستصحبة رأي أهل الشأن.

وعن بدايات السينما قال عميد كلية تنمية المجتمع بجامعة وادي النيل دكتور “هشام محمد عباس” والذي قام بدراسة تحليلية للفيلم السينمائي الراوائي الأول “آمال وأحلام” الذي عرض لأول مرة في 18/8/1968م. قال لـ(المجهر) إن كتاب “السينما في السودان ماضيها وحاضرها ومستقبلها” الذي قام بتأليفه رائد السينما السودانية الأستاذ “كمال محمد إبراهيم” يعتبر من أهم المراجع في تتبع البدايات الأولى للسينما في السودان، حيث ذكر أنه جاء في مذكرات السير “ستيوارت سايمز” الحاكم العام للسودان في الثلاثينيات في مؤلفــــــــه Tour of Duty جولة عمـــــــــل إن أول عرض سينمائي في السودان تمّ بتوجيه اللورد (كتشنر) عندما كان في زيارة للسودان في مهمة رسمية عام 1911م، وكان ذلك الفيلم إخباري قصير صامت تمّ عرضه في مدينة الأبيض ضمن الاحتفالات التى أقيمت بمناسبة إكمال مد خط السكة الحديد إلى هناك.
حضور فئوي
وأضاف “هشام” هذا لا يعني البتة أن ذلك التاريخ كان بداية للعروض السينمائية في البلاد، غير أنه كانت تقام عروض لأفلام صامتة بعد منتصف العشرينات على سينما (سكيتنج رنك) بالخرطوم لصاحبها (عما نويل ليكوس) اليونانى الجنسية، ولمشاهدة الأفلام الأمريكية كان يرتادها أفراد وعائلات المجتمع الإفرنجي الذي كان يعمل ويعيش في السودان، وأيضاً قلة قليلة من المثقفين السودانيين أمثال “محمد أحمد محجوب” ودكتور “عبد الحليم محمد” وآخرين.
وقال دكتور “هشام” يمكن اعتبار الثامن عشر من فبراير من كل عام عيداً للسينما الوطنية السودانية حيث شهد ذلكم اليوم أول عرض للفيلم سينمائي “آمال وأحلام” بمنزل السيد “حسين محمد أحمد شرفي” محافظ المديرية الشمالية، وتكفل الرشيد مهدي بدعوة الضيوف لحضور العرض، منهم السنمائي السوداني المعروف الأستاذ “جاد الله جبارة”.
تجاوز في التعبير السياسي
ثم وبعد العرض الأول الذي كان الهدف منه تطمين الجهات المحلية أن هذا الفيلم يستحق العرض في دور السينما السودانية، خاطب أستديو الرشيد وزارة الثقافة والإعلام لإجازة الفيلم التي طلبت بعض التعديلات الفنية مثل تعديل بعض المصطلحات التي وردت في الحوار خاصة تلكم التي اعتبرها نظام مايو الجديد تجاوزاً في التعبير السياسي، وفي يناير من العام 1970م حوّلت وزارة الثقافة والإعلام فيلم “آمال وأحلام” إلى لجنة الرقابة المركزية لحكومة السودان لمشاهدته وكانت اللجنة تتكون من ممثلين لوزارة الثقافة والإعلام والقوات المسلحة والقضاء والعمال والموظفين، وقد أشادت اللجنة بالفيلم واعتبرته محاولة جادة وصادقة تمثل مقدرة أبناء الشعب السودانى في الصعود إلى آفاق فن صناعة السينما في السودان
فقط خمسة أفلام روائية
ومضى دكتور هشام بقوله: مرت السينما في السودان بعدة مراحل حيث كانت دور السينما التجارية في السودان بمثابة النافذة التي أطل منها المجتمع السوداني على العالم الخارجي في فترة العشرينيات والثلاثينيات. وتعتبر مدينة عطبرة هى أول مدينة عرفت دور السينما في السودان .
على الرغم من العلاقة القديمة مع السينما فإن السودان “الحديث لهشام” أنتج فقط خمسة أفلام روائية هي “آمال وأحلام” للرشيد مهدي و”تاجوج” لجاد الله جبارة، و”يبقى الأمل” لشركة عليوة و”رحلة عيون” لأنور هاشم و”بركة الشيخ” لمصطفى إبراهيم وكـــــان يمكن (لعرس الزين) أن يكون الفيلم السادس لولا الإنتاج غير السوداني في رأي بعض السينمائيين ولكن يمكن اعتباره الفيلم السادس بحكم القصة والمضمون والممثلين السودانيين.
ملخص للفنون السبعة
ووصف مدير مركز الفيلم الأستاذ “أسامة عبد الرحمن ” السينما بأنها قلم وكلمة وصورة وملخص للفنون السبعة “موسيقى ولحن وأغاني، تصوير، إخراج، وإضاءة، وديكور، وفن تشكيلي، ونص وسيناريو” وصولاً للأداء والتمثيل والتعبير. فالسينما بحد تعبير “أسامة” توصل الفكرة أسرع من أي وسيلة أخرى كونها مجموعة فنون، فالتأثيرات تصل للمتفرج بأساليب عديدة ناهيك عن عوامل الإبهار، وما يرتبط بها من استعراض. ولا نغفل تأثير النجوم على المشاهدين.
واستدرك “أسامة” متسائلاً كيف نترك هذه الوسيلة المهمة دون الاهتمام بها باعتبارها رسالة بيننا أولاً، وبين أفراد الأسرة الواحدة أو كرابط بين أبناء المجتمع ككل. ومن جهة أخرى استخدامها كوسلية بث عالمي تعكس وتنقل افكارنا وقضايانا وتعبر عن ذاتنا.
تجارب سينمائية ناجحة
المهتم بالسينما وشئونها الدكتور “محمد مصطفي الأمين” قال في سياق حديثه لـ(المجهر) اخترعت السينما كأداة للاتصال بل كاختراع علمي وليس فني، ففي أوروبا وأمريكا استندوا إلى نظرية (وهم الصورة) والتصوير الفتوغرافي وتم تطبيقها علمياً بعد اختراع الضوء لأن بدونه ليس هنالك سينما. وأضاف “مصطفى” معرفاً بأن هذه النظرية (وهم الصورة) تحققت في عام (745-8075) وتعتمد على العين والتصوير في آلة عرض السينما.
أضاف “مصطفى”: شهدت فترة السبعينيات تجارب سينمائية سودانية ناجحة لخريجي كليات ومعاهد سينمائية معروفة في العالم شكلت نقلة عن النمط الوثائقي الذي لازم الإنتاج السينمائي منذ بدايته في أواخر الأربعينيات.
بداية العد التنازلي للانهيار
وعزا الإعلامي الأستاذ “عبد الرحيم بشير” أسباب تدهور السينما- بحسب اعتقاده- إلى التدهور المريع الذي شهده السودان في مجال الإنتاج السينمائي كما أن الأسباب لا تنفصل عن المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي. وقال: (إذا نظرنا لتاريخ السينما في بلادنا نجدها مرت بفترات وحقب متأرجحة نظراً للتغييرات السياسية في أنظمة الحكم المتعاقبة. وأن آخر أيام ازدهارها كانت في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي فترة نظام مايو. وفي الثمانينيات بدأ العد التنازلي لانهيار السينما في السودان سيما فترة حكم الإسلاميين الذين أطفأوا ما تبقى من بريقها وأغلقوا دور السينما وأوقفوا نشاطها نهائياً.
المتحكم الرئيسي
واستطرد الأستاذ “عبد الرحيم” بقوله نتيجة لهذا الانهيار والفطامة القسرية من السينما هجرها الناس رغم احتياجهم والدولة لها فمعروف أن السينما واحدة من أهم أدوات التواصل الثقافي بين الشعوب في مختلف بلدان العالم، وركيزة أساسية في استدامة السلام الاجتماعي، وفي ظل التطور المتسارع في تكنولوجيا المعلومات، وأدوات الاتصال أصبحت السينما المتحكم الرئيسي في هذا التواصل الثقافي وربط هوية الشعوب، وإبراز الموروثات الاجتماعية والثقافية، فأضحى المسرح الجوال والسينما المتحركة من أبرز ما أنتجته البلدان المتقدمة في الإنتاج السينمائي كالولايات المتحدة وتركيا والهند وغيرها من البلدان الأوروبية.
ومضى الأستاذ الإعلامي”عبد الرحيم بشير” معدداً أسباب تدهور الإنتاج السينمائي في السودان، مشيراً إلى أن أبرزها تجاهل الدولة لأهمية السينما في تشكيل الحراك الثقافي والمجتمعي. ثانياً تقصير مؤسساتنا الإعلامية في تسليط الضوء وسلبيتها في إنتاج أعمال درامية وسينمائية “تلفزيون السودان نموذجا”، كذلك منظمات المجتمع المدني يقع على عاتقها مسؤولية هذا الإخفاق نتيجة لعجزها عن تحريك الدولة تجاه عودة السينما لسابق عهدها.
دعوة لعودة ودعم السينما
وعبر (المجهر) ناشد “عبد الرحيم” الدولة بأن تهتم وتعمل على تصحيح خطأها بعودة السينما ودعمها كيما تعود أكثر مواكبة حتى لا يحدث ما حدث لكرة القدم من تدهور في بلادنا. وقال: (يتمتع السودان بكل مقومات الإنتاج السينمائي الجاذب، ومنذ بدايات عهد السينما “الصامتة” كان السودانيون يعشقون هذا الفن ويتذوقونه. لذا فمن الممكن أن نتفاءل بميلاد سينما سودانية عربية ذات معالجات متميزة تلقي الضوء على الجانب الأفريقي الثري والغني والمبهر شكلاً وموضوعاً.
قصور في سياسات الحكومة
اما الأستاذ الجامعي “محمد مهدي” قال في حديثه لـ(المجهر) إن السودان
يتمتع بعدد من المعوقات السينمائية، حيث يرجع كثير من المهتمين مشكلة غياب الإنتاج السينمائي في السودان إلى القصور في سياسات الحكومة المتمثلة في أجهزتها ذات العلاقة بالإنتاج السينمائي، وإحجام القطاع الخاص عن الدخول في مجال تمويل إنتاج الأفلام، وغياب الأستوديوهات والمعدات الفنية وغياب الرؤية المتكاملة التي تنعكس في وجود تخطيط علمي منهجي، فضلاً عن غياب الرأي المتعاطف، مضيفاً أن أحد المقترحات التي وضعت هو تجميع شتات الأجهزة السينمائية، ولكن هذا وحده لا يكفي فلا بد من أن يرافق أصدار القرار حل مسألة التمويل، وتدريب الكوادار والإعفاءات الضريبية .
ومضى “مهدي” بقوله إن التعامل مع المسألة السينمائية كواحدة من المسائل الثقافية مثل الكتاب لا يتم إلا وفق سياسة ثقافية متكاملة، ومثلما أثيرت مسألة حماية مشاهد من التلفزيون السوداني خيفة التأثيرات السلبية للمسلسلات الأجنبية، كان لا بد أيضاً من سن قوانين تساعد في تغيير نوعية الأفلام المستوردة لايجاد قاعدة واسعة من المتلقين تدعم الفيلم.
وعود الولاية ووزارة الثقافة
الأمين العام لاتحاد السينمائين في السودان الأستاذ “عبادي محجوب” قال لـ(المجهر): في وقت مضى انتشرت دور العرض السينمائي في مدن السودان المختلفة إلى أن وصلت حوالى (67-70) دور عرض سينمائى وكانت مؤثرة بشكل كبير فى الناس وثقافتهم ويعتقد الكثير من الناس أن القنوات أثرت على السينما وهذا الكلام غير صحيح لأن مشاهدة الأفلام في السينما تختلف عن مشاهدتها على شاشة التلفاز.
وأردف “عبادي ” بقوله في النصف الأول من التسعينات أغلقت دور العرض السينمائي، بسبب ما فرضته الحكومة من تكاليف باهظة وضرائب، الأمر الذي تسبب في خسائر كبيرة لأصحاب دور العرض، مضيفاً أن الحكومة لا تملك دور عرض وجميعها أصحابها من الوطنيين وتجار وشركات. ودور العرض وقتها كانت “الوطنية أم درمان” و”الوطنية بحري” وسينما “غرب كلوزيوم” و”الوطنية جنوب” و”الوطنية بانت”.
ونحن الآن موعودون “الحديث لعبادي” من والي الخرطوم ووزير الثقافة بافتتاح ثلاثة دور عرض سينمائى خلال هذا العام في كل من أم درمان وبحري و الخرطوم. وتمنى حل المشكلات المعوقة كافة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية