هل فشلت صحافة الحكومة؟ (23)
تولى الأستاذ “عبد المحمود نور الدائم الكرنكي” رئاسة تحرير صحيفة (الأنباء) في العام 2003م إن لم تخني الذاكرة، والأستاذ “الكرنكي” يمتاز بالهدوء وأحياناً الصمت، ويتحدث همساً، فهو من الصحفيين المغرمين بحب التوثيق ويحمل الكثير من المعلومات، لذلك جاء إلى (الأنباء) وهو في حالة تحدٍ، يريد أن يرفع من شأنها ومن كبوتها، لذلك وقبل أن تُمارس عليه عمليات الضرب تحت الحزام حاول مباغتة الرجلين الكبيرين المهندس “السعيد عثمان محجوب” المدير العام للصحيفة والأستاذ “عباس النور” رئيس مجلس الإدارة، فبدأت عملية التضييق على الرجلين، وشكا الباشمهندس علناً وليس سراً لنا من ما يمارسه “الكرنكي” ضدهما، حتى جاءت الضربة القاضية وأقصى الباشمهندس “السعيد” من إدارة الصحيفة، ومن ثم بدأ اللعب من الأستاذ “عباس النور” رغم أن الأمور لم تكن واضحة لكل الناس، ولكن من يكون قريباً تتضح له الصراعات.. ولا أنسى وأنا في معية الباشمهندس “السعيد” وكان قد ضاق ذرعاً بسياسات “الكرنكي” وقالها لي ونحن الاثنين نستقل عربته، قال: (شوفوا صاحبكم دا)، ولم تكن معي كل التفاصيل عن صراعهم إلى أن غادر وبعدها غادر الأستاذ “عباس”، ودانت الصحيفة للأستاذ “الكرنكي” بأجمعها، ولم يكن هناك رئيس مجلس إدارة ولا مدير عام.. “الكرنكي” حاول أن يركز على التحرير، ولكن حتى التحرير أصابه الرشاش من بعض السياسات، ربما يعتقد “الكرنكي” أنها صحيحة بينما يراها الآخرون خطأ.. وأذكر أن الأخ “محفوظ عابدين” طلب إذناً للبقاء مع أسرته في شندي بعد عطلة العيد ليوم أو يومين إضافيين، ولكن بعد انتهاء إجازة العيد وعدنا للعمل لم يعد الأخ “محفوظ” باعتبار أنه قد نال يوماً أو اثنين من الإدارة، وعند عودته وجد خطاب فصله بمكتب الاستقبال، وهذا ما يؤخذ على الأخ “الكرنكي” ويخصم من رصيده أمام الزملاء.. فحتى إذا تأخر المحرر بعد الإجازة ليوم يمكن أن تستخدم الإدارة قوانينها ولوائحها بالخصم أو أية صورة أخرى، ولا يصح أن يدخل رئيس التحرير في خصام مع المحررين، وهم زملاء مهنة سيلتقون آجلاً أم عاجلاً، والتشفي وأسلوب الدكتاتورية لن يفيد الصحفي إن كان محرراً أو رئيس تحرير.. وأخونا “الكرنكي” رغم الفترة الطويلة التي قضاها في بلاد الديمقراطية، كانت بذرة الدكتاتورية تنمو شيئاً فشيئاً بداخله.. وليست الإدارة القابضة هي التي تجعل من المسؤول ناجحاً.
شهدت فترة “الكرنكي” في (الأنباء) نوعاً من الاستقرار في المهنة، وبدأت الصحيفة تقدم مادة أفضل مما كانت عليه، إذ إن “الكرنكي” يتمتع بسعة أفق كبيرة ورؤية في العمل الصحفي، ويحاول دائماً فتح النوافذ المغلقة في العمل الصحفي، ولكنه يأتي وبدون مقدمات فيهد كل الذي بناه، فمعالجات بعض الأمور لم يحالفها الصواب.. وأذكر أن الأخ “أسامة عوض”، الذي كان يشغل منصب مدير التحقيقات.. في إحدى (السهرات) المكلف بها على الصفحة الأولى وبعد أن فرغ من تصميم الصفحة- لا أدري إن كانت مؤامرة قد حيكت ضده- قيل له: (يا أسامة انتهينا أمرق) فلم يتأكد من الصفحة الأولى بصورة جيدة، وفي اليوم التالي صدرت الصحيفة وهي تحمل صفحة أولى قديمة.. هاج الأستاذ “الكرنكي” لهذا الخطأ الفادح.. صحيح الأخ “أسامة” اخطأ، لكن هل العقوبة تقتضي أن تُخصم خمسة عشر يوماً من راتبه الشهري؟! كان يفترض أن تُشكل لجنة تحقيق للوصول إلى الحقيقة قبل صدور الحكم القاسي، ربما تكون الحقيقة مخالفة للحكم الصادر.. ونعلم أن القاتل لا يصدر حكم الإعدام في حقه فور تنفيذه للجريمة، فهناك هيئة اتهام ودفاع وشهود، ومن ثم إصدار الحكم، ولكن أن يصدر الحكم فوراً فهذا فيه ظلم للشخص.. وأخونا “الكرنكي” دائماً يستعجل إصدار الأحكام.
نواصل