هيكلة الجيش المقدمة من (قحت) تمثل انفجاراً له مقاسه الذي يتجاوز الزلزال المدمر، لمن لا يعرف إيقاعه ومعالمه في نفوس العسكر، فهي تشكل قضية تمشي على تضاريس الحريق الهائل الذي يتماهى مع الفضاءات المشحونة بمشاعر القوات المسلحة وكرامتها، دون الاهتمام بالأنماط السياسية أياً كانت لونية الثوب الذي ترتديه.. فالشاهد أنه كل ما أطلقت قوى الحرية وحكومة “حمدوك” بين الفينة والأخرى الإشارات الكثيفة حول ضرورة هيكلة الجيش على الصور والملامح الجديدة، فإن ذلك يُقابل بمزيد من الترقب والتحسب واليقظة من جانب العسكر حول فحوى هذه الرسالة الملتهبة التي لا تجد الإقبال والتفهم في نفوسهم، باعتبار أن صيغة الهيكلة من جانب (قحت) تشكل مشروعاً قابلاً للانفجار مع العسكر، إذا حان وقت تطبيق هذه الصيغة (القحتاوية) على أرض الواقع.
ومن الواضح أن حكومة “حمدوك” وحاضنتها (قحت) لهما أهداف ومرامٍ من هيكلة الجيش، فهم لا يريدون قوات مسلحة تتدخل في السياسة، وتكون منزوعة الطموحات في الحكم، ولا تفكر في استلام السلطة، حتى إذا دعى الداعي في أوقات الخطوب والبلايا والفوضى التي قد تظهر في الساحة، علاوة على ذلك، فإنه يوجد في ثنايا المشروع (القحتاوي) تلك الحساسية المفرطة نحو الجيش، فهم عازمون على تنظيفه من الأيديولوجية ذات الصبغة الدينية مع إمكانية دمجه بقوات أخرى في المستقبل، (ربما تكون خليطاً من توجهات عديدة)، وذلك حتى يتسنى قيام التوازن في الجيش الذي ربما يكون بمثابة الترياق المطلوب، بعد عملية التسريح وتقليم أظافره، وإذا نظرنا إلى رد فعل الجيش، فإننا نجد بأن الشق العسكري في مجلس السيادة علاوة على تركيبة القوات المسلحة من رئاسة الأركان حتى سلك الجنود، فإنهم جميعاً يشعرون بسوء الكيل في دعاوى (قحت) من الهيكلة، وربما تكون هنالك مجموعة منهم تنظر للهيكلة من ناحية التطوير الفني والتقني للجيش، على أن تتم بأيدٍ عسكرية متخصصة في الحدود التي لا تجعل الهيكلة حبلاً على رقابهم من قبل (قحت).. لابد من التذكير بأن الرؤية نحو الجيش بعد سقوط “البشير” صارت عند اليساريين تأخذ منحنى غريباً وخطيراً، فهنالك من يطالب بإلغاء الجيش كلياً عن البلاد، والاكتفاء بالشرطة على النمط السويسري، فضلاً عن الأحاديث التي تؤكد بأن الجيش هو الجهة التي دمرت السودان عن طريق الحكم الطويل، بينما توجد فئة أخرى ترى بأن الجيش هو صمام أمان البلاد، فهو الحارس والحامي وبوتقة الوحدة الوطنية والمؤسسة التي تجسد قومية السودانيين، وأن جميع الانقلابات العسكرية جاءت بإيعاز من النخبة السياسية المدنية، بل كان الجيش أول ضحايا هذه الانقلابات العسكرية، مثلما حدث في النظام المايوي ونظام الإنقاذ.. فالشاهد أن قضية هيكلة الجيش قد تجسد مأزق الحسابات الخاطئة إذا لم توضع في المعمل الصحيح، وترفد بالرؤية العسكرية المهنية العلمية، وبذلك ستكون عصية على الذين يحاولون تمريرها على بساط الهدف المخبوء في الصدور، وبذات القدر فإن هيكلة الجيش ليست هتافات في الشارع العام ولا تعكس خطوة استعراضية في المسرح السياسي، بل هي صيغة إستراتيجية وحساسة في عمق المجتمع السوداني، وإذا لم توضع في الطريق الصحيح فإنها سوف تكسر السياج والأسوار وتنداح في منطقة الهاوية.