ظهرت في الفترة الأخيرة موضة اسمها السكن في المناطق الارستقراطية ككافوري والرياض والمنشية والسكن الفاخر والراقي وعلى الرغم من أن سكان تلك المناطق الجدد هم أصلاً ولدوا في المناطق الشعبية داخل ولاية الخرطوم أو قادمين من ولايات السودان المختلفة فمن كان يسكن في قطية حاول بقدرة قادر أن يمتلك عمارة متعددة الطوابق، ومن كان يسكن في بيت من الشعر أو القش لم يرض بسكنه القديم لزوم الوظيفة أو الوزارة ، وعلى الرغم من أن تلك المناطق الفاخرة أو الهاي هاي ولكن سكانها كل واحد أغلق بابه عليه فلم يعرف شيئاً عن جاره الملاصق، قادتني تلك المقدمة للمقارنة بين تلك المناطق الحديثة والمناطق القديمة التي مازالت تحتفظ بألقها وجمالها وطيبة أهلها، فقبل يومين غرق أحد أبناء الحارة الثانية مدينة المهدية وهي من المناطق التي وزعها الفريق “عبود” على سكان أم درمان القديمة بيت المال وودنوباوي وأبوروف وود أرو وهي من الحارة الأولى وحتى الحارة السادسة وما بعدها كان فضاءً واسعاً أو كما يقال عنه خلاء، غرق هذا الشاب وهو في مقتبل العمر(خالد الفكي بابكر) ولم تتسلم أسرته جثمانه إلا عند السادسة مساء (الأربعاء) الماضي، الأسرة مكلومة والحلة كلها مكلومة فلم أشهد عدداً من البشر في تلك الليلة بهذا المستوى فقد صلى عليه بعد المغرب خارج حرم المسجد فكانت الصفوف قد بلغت طولاً ما يقارب العشرة صفوف وفي كل صف ما يقارب المائة مصلٍ، هذا لم يحدث قريب لا عند وفاة سياسي أو زعيم ديني أو غيره من الموتى، فالحارة الثانية المهدية تعد واحدة من الأحياء التي مازالت تحتفظ بطيبة ومعشر أهلها المنفتحين على بعضهم البعض بل تمددوا إلى الحارات الأخرى، حُمل الجثمان ليوارى الثراء بمقابر “أحمد شرفي” فتبعه ألاف المشيعين، فكنت أفكر قبل العودة من المقابر كيف يطعم هذا العدد الكبير من الناس وهم لم يتذوقوا طعم الأكل منذ الصباح الباكر ، ولكن دهشتي تبددت حينما وجدت أهل الحي قد أعدوا الطعام وخرجت ما يقارب الأربعين صينية بها عدة أصناف من الطعام في لحظات، فطعم الكل في ثوانٍ معدودة، هؤلاء هم أهل الحارة الثانية، أهل المروءة، وأهل الواجب، وما لفت نظري أيضاً أن كل البيوت كانت مفتوحة مما يجعلك تعجز في تحديد أيها بيت العزاء، فهذه الحارة مشهود لها بالوفاء والترابط والتجانس منذ ستينات القرن الماضي، تربى الصغار على كنف الكبار فأخذ هذا الجيل كل الخصال الطيبة من الآباء والأجداد، فهناك عادات كادت أن تندثر مع ظروف الحياة الضاغطة، ولكن سكان الحارة الثانية مازالوا محتفظين بها إلى يومنا هذا، فالحارة الثانية المهدية بها عدد كبير من المميزين منهم السفير “العبيد محمد العبيد” سفيرنا الآن بالجزائر، وشخصي الضعيف وبها لاعب الهلال الدولي “رشيد المهدية” وعدد كبير من لاعبي نادي المهدية والأندية الرياضية الأخرى، وفيها الحكم “عمر حمزة” و”عبد الرحمن درمة” ، وأشهر حفار للقبور ودافن للموتى عابدين درمة، وبها البروفسور “مصطفى الفكي” أستاذ اللغة العربية بالجامعة الإسلامية والبروفسور “إمام عبد الرحيم” أستاذ اللغة العربية بالجامعات السعودية، واللواء “عمر عبد الله عمر”، واللواء “عوض السيد”، واللواء “عبد المنعم طلحة”، واللواء “طارق عمر مبروك”، والدكتور “كمال الصبي”، والدكتور “أحمد جرقندي”، والدكتور “صديق العبيد”، والعقيد “ربيع عبدالله عمر”، والأستاذ “عبد الرحيم جاه الرسول” من كبار المحامين، والدكتور “أمجد حماد”، والباشمهندس “أيمن” و”أسعد محمد حماد”، ورجل الأعمال “سمير محي الدين”، والفريق “أحمد أبوشنب”، وعدد كبير من حملة الشهادات العليا، وكل هؤلاء في شارع رقم (واحد) فلم نحصر بقية سكان الحارة التي تعد من الحارات المميزة بمدينة المهدية فها هي الثانية برجالها ونسائها شيعوا هذا الابن إلى مثواه الأخير، نسأل الله أن يصبر أهله وزملاء الدراسة بجامعة الرباط.
اشترك بالنشرة البريدية ليصلك كل جديد
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق