شهادتي لله

مولانا “حيدر” .. إلى رحاب الصديقين

وتتوالى علينا النكبات والصدمات .. ونتقوى عليها والحمد لله بالصبر على المكاره ، فقد استيقظت أمس على الخبر الفجيعة ، وفاة مولانا رئيس القضاء البروفيسور “حيدر أحمد دفع الله” . ما كنت أعلم أنه كان يعاني خلال الأيام الفائتة مع مرض لئيم .. داهمه ، فعاجله .. وعاجلنا ، رحمات الله عليه ورضوانه .
كان مولانا “حيدر” رجلاً عظيماً ، بكل ما تحمل هذه المفردة من معانٍ ، سودانياً كامل الدسم ، لطيفاً .. وشفيفاً .. متواضعاً ومتواصلاً مع كافة شرائح المجتمع ، دون تنطع .. أو تكلف .. أو برتوكولات .
عندما عدت من رحلة علاج بالخارج ، كان مولانا “حيدر” ودون موعد ، من أوائل الذين زاروني بالمنزل ، و(كرامته) تسبقه ، وما ذهبت إلى مناسبة زواج أو عزاء بالخرطوم .. إلا ووجدت مولانا “حيدر” أمامي . بعثت له برسالة نصية أدعوه لعقد قران شقيقي ، فوصل مسجد (النيلين) قبلنا ، وكان شاهداً على العقد بحضور نائب الرئيس السابق الرجل (الدينمو) السيد “حسبو محمد عبد الرحمن” .
كان يتواصل معي مباشرة عبر هاتفه الخاص ، متجاوزاً سكرتاريته ومكتبه التنفيذي ، وهو في مقام برتوكولي أرفع من النائب الأول لرئيس الجمهورية ومن رئيس الوزراء ، لكنه كان يمشي بين الناس وكأنه من عامة الناس !!
لم يعزله المنصب الحساس من الناس ، بل ربطه بهم .. وعزز علاقاته في المجتمع ، دون أن يؤثر ذلك على مقامه العدلي الرفيع ، أعاد لرئاسة القضاء رسالتها القديمة الجامعة بين نصوص القانون و(أبوية) الناظر .. رئيس المحكمة الأهلية في المدن والأرياف في تأريخ القضاء السوداني ، فبدا كأحد أهم حكماء البلاد بما جمع من علاقات ، وما توفر له من قبول شعبي لم يتوفر لأي رئيس قضاء ، على الأقل خلال الأربعين عاماً الماضية .
كان ناشطاً في المبادرات المجتمعية ، فقد اتصل بي قبل نحو عامين ، للمشاركة في (نفير) لصيانة وتجديد مدرسة المؤتمر الثانوية العليا بأم درمان ، بعد أن رصدت لجنة من خريجيها أسماء بعض الذين درسوا بهذه القلعة العلمية والتربوية التليدة ، و كان من بينهم مولانا “حيدر” نفسه ، وعدد من رموز السودان الوضيئة على مراحل مختلفة ، وللأسف لم أتمكن من الإسهام مع هؤلاء الكبار الذين أفلحوا في تغيير شكل وبيئة المدرسة بصورة مذهلة ، ومن هؤلاء رجل الأعمال المحترم السيد “معاوية البربر”.
حدثوني بالله عن رئيس قضاء سابق ، فعل ما كان يفعله مولانا “حيدر أحمد دفع الله” من نشاط مجتمعي وتواصل مع الناس ، فضلاً عن إنجازات ضخمة .. لا تخطئها العين في أجهزة السلطة القضائية بكافة الولايات ؟!
عرفته قبل أن يصبح رئيساً للقضاء ، وقد رويت هنا .. في (شهادتي لله) قبل سنوات ، فصلاً من تجربته في القضاء بدولة “قطر” التي كان منتدباً إليها ، فقد نظر مولانا – رحمه الله – دعوى قضائية مقدمة من أحد المواطنين القطريين وهو صاحب عقار يستأجره مكتب العلاقات التجارية الإسرائيلية بالدوحة ، والمواطن طالب بإخلاء العقار . كان زملاؤه من الجهاز القضائي بدولة “قطر” في حيرة من الأمر ، كيف سيتصرف هذا القاضي (السوداني) مع هذه القضية بالغة التعقيد !!
حكم مولانا “حيدر” بإخلاء العقار ، وحكى لي أنه سلم الإسرائيليين قرار المحكمة بصحبة شرطي ، وقد فوجيء .. كما فوجيء زملاؤه في قضائية “الدوحة” ، أن (اليهود) التزموا بقرار المحكمة ، وأخلوا العقار سريعاً !! (طبعاً .. كان بإمكانهم أن يبقوا بالعقار ما شاء الله لهم ، ولم يكن بمقدور السلطة السياسية بالدولة إخراجهم) .
ألا رحم الله .. الرجل الأمة .. القاضي العالم .. البشوش المهذب .. مولانا “حيدر” ، فمهما كتبنا عنه مقالات ومعلقات .. ما أوفيناه حقه .
اللهم أرحمه بقدر ما وسعت رحمتك .. وألطف به عندك .. فإنه كان لطيفاً بعبادك .. أغسله بالماء والثلج والبرد .. وأدخله في جنات الرضوان .. فقد مضى إلى رحابك وهو مرضي عنه في الدنيا .. فأجعله عندك في مقام محمود .. وسدر مخضود .. وطلح منضود .. وظل ممدود .. وماء مسكوب .. وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة .
إنك نعم المولى .. ونعم الغفور الودود .
(إنا لله و إنا إليه راجعون) .

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية