غيّب الموت المشير “عبد الرحمن محمد حسن سوار الدهب” رئيس الحكومة الانتقالية في 1985، وحدثت الوفاة بالمملكة العربية السعودية التي ذهب إليها مستشفياً وأوصى أن يدفن في البقيع بالمدينة المنورة، برحيل المشير “سوار الدهب” تكون قد انطوت صفحة من صفحات الطهر والنقاء لأحد أفراد القوات المسلحة، إن المشير “سوار الدهب” عندما جاءته السلطة على طبق من ذهب، زهد فيها وسلمها في الوقت الذي قطعه للساسة بأن تكون الفترة الانتقالية عاماً، ومن ثم تتولى جهات أخرى زمام الحكم بالبلاد، وكانت فترته من أفضل فترات الحكم، فقد عاشت البلاد أمناً وسلاماً واستقراراً، حتى الكهرباء التي قال وزير الري نهاية الحكم المايوي، إنها ستكون معدومة نظراً لقلة المياه آنذاك.. ولكن من نعم الله على فترة حكمه أن تدفقت مياه الأمطار بغزارة وتوفرت كميات منها ساهمت في استقرار التيار الكهربائي طوال فترة حكم المشير “سوار الدهب”، وعرف المشير بالتقوى والصلاح ومخافة الله، وأذكر ونحن في بداية عملنا الصحفي بصحيفة الأيام عندما سقط النظام المايوي، فكنت من المكلفين بتغطية مسيرة الردع، وهي المسيرة التي توعد فيها “أبو القاسم محمد إبراهيم” والراحل “أبو ساق” المعارضين بالويل والثبور إن خرجوا في ذاك اليوم، وهو يوم (السبت) الذي حددته المعارضة لخروجها، فسرنا مع قيادات مايو إلى السكة الحديد وهي نقطة النهاية للمسيرة التي تحركت من أمام النصب التذكاري بالقرب من القصر الجمهوري، وأذكر أنني كنت خلف المشير “سوار الدهب” فسألته إن كانت مايو باقية، فأكد أنها باقية، وكان ذلك من التصريحات القوية التي قالها ضمن عدد من القادة وقتها، بينهم الفريق “عباس مدني” وزير الداخلية وقتها رحمة الله عليه، فهلل الأستاذ “أحمد البلال الطيّب” وكان وقتها رئيساً لقسم الأخبار بالأيام، عندما قدمت له الخبر رفضت أن يذيل باسمي لتقديراتي.
لقد كان المشير “سوار الدهب” صادقاً مع نفسه ومع قيادته في الحكومة، فقال إنه على بيعة مع الرئيس، وعندما طلبت منه القيادات العسكرية برئاسة الفريق “تاج الدين فضل” رئيس هيئة الأركان، الانحياز إلى الشعب واستلام السلطة، فانصاع إلى أمرهم وصام ثلاثة أيام براً بقسمه، حاولت الكثير معه لإجراء حوار يقدم فيه دفوعاته عن فترة مايو، وكيف كانت الأيام الأخيرة منها وكيف كان الانحياز إلى جانب الشعب، وأذكر أنني ذهبت إليه بمنزله خلف جهاز الأمن الحالي، وبعد أن بدأنا الاستعداد إلى الحوار وأدرنا الشريط تراجع في آخر لحظة طالباً إعفاءه واستجبت لرغبته، ولكن في العام 2004 تقريباً حينما حصل على جائزة الملك “فيصل”، ذهبت إليه بمنزله الخاص بالرياض، وأجريت معه حواراً عن تلك الجائزة وما سيفعل بمبلغ العشرة آلاف دولار، وهي قيمة الجائزة، تخيلوا ماذا قال لي الراحل المشير “سوار الدهب”؟.. قال لي سوف أحل بها ديوني، رئيس جمهورية يستدين وتنقذه جائزة لحلحلة ديونه، هذا منتهى الزهد، إنه فعلاً رجل آخرة وليس رجل دنيا، جاءته السلطة على طبق من ذهب، يمكن أن يعيش كل حياته يأكل ويشرب من مال الدولة.. ولكن يرفض كل ذلك ويستدين لتأتي الأقدار ويفوز بجائزة تخرجه من الفقر، لقد عاش فقيراً ومات فقيراً نسأل الله أن يتقبله قبولاً حسناً مع الشهداء والصديقين بقدر ما قدم لهذا الوطن.