جراحة المؤتمر الثامن في جسد الحركة الإسلامية.. للاستشفاء أم الرحيل..؟!
انفض سامر المؤتمر العام الثامن للحركة الإسلامية السودانية في وقت متأخر من مساء يوم (الأحد) الماضي، بعد مضى (4) أيام على انعقاده، كان مسرح اليوم الأخير قاعة الشهيد الزبير للمؤتمرات، فيما احتوت قاعة الصداقة بالخرطوم الأيام الثلاثة الأوائل، قضاها (4) آلاف عضو في إجازة دستور الحركة واختيار قيادتها الجديدة كأبرز حدثين لازما الفعالية، ووجدا في الوقت ذاته حيزاً مقدراً على صفحات أجهزة الإعلام المقروء والمرئي والمسموع بوصفهما حجر الزاوية في مستقبل الحركة الإسلامية وتوجهها.
ترجل (علي) ومجيئ (الزبير)..
على غير المتوقع لكثير من المراقبين والمتابعين بالنظر للأسماء التي رشحت، جاء انسحاب الأمين العام السابق للحركة الإسلامية السودانية، النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” من سباق الأمانة العامة للحركة الإسلامية مفاجئاً تماماً كاختيار “الزبير أحمد الحسن” أميناً عاماً للحركة الإسلامية بالتزكية إثر انسحاب “غازي صلاح الدين” في اجتماع مغلق لمجلس شورى الحركة مساء (الأحد) 18 نوفمبر 2012 بقاعة الشهيد الزبير بالخرطوم، تبعه انتخاب بقية عضوية قيادة (الشورى).
ترتيب المرشحين للأمانة العامة للحركة الإسلامية بحسب قطاعات واسعة من عضوية وقيادات الحركة الإسلامية كان في مقدمتهم الأمين العام السابق، ثم د.”غازي صلاح الدين”، البروفيسور “إبراهيم أحمد عمر”، د.أمين حسن عمر، د.”كمال عبيد”، و”الزبير أحمد الحسن” الذي وإن كان هناك إجماع على وفاقية شخصيته وطهرها ونقائها، ومقدرته على تنفيذ ما هو مطلوب منه، بجانب أنه ربما كان مقبولاً لدى مجموعات الإصلاح، ولكن الاتهامات تلاحق “الزبير” من حيث قدرته على إدارة الحركة الإسلامية من ناحية وزهده في تولي المنصب من ناحية أخرى، وربما يعضد ذلك قوله بصراحته المعهودة عقب اختياره أميناً عاماً، إنه لم تكن لديه فكرة عن الترشيح وأن خاله وعمه أخطراه بالترشيح عصر (الأحد)، وأن د.”غازي” أفضل منه لتقلد المنصب.
المحلل السياسي البروفيسور”الساعوري” رفض إطلاق مصطلح (يس مان) على الأمين العام الجديد الذي أشار إلى أنه رجل قوي وبمقدوره فعل شيء وتصحيح ما احتاج لتصحيح، لكنه عاد وقال: (لكنه مفرمل من فوق، واعتبر أن من إيجابيات اختيار (الزبير) إزاحة ما سمَّاها بالحواجز التي أشار إلى أنها كانت موجودة في عهد الأمين السابق بين القيادة والقواعد، ونبه إلى أن قبول الرجل وسط قيادات دعاة الإصلاح من أسباب الدفع به، وقال: (لا توجد حواجز بينه وكوادر الحركة الإسلامية وأن ذلك مهم جداً للتواصل) .
ترجل “علي عثمان” من صهوة منصب الأمين العام للحركة الإسلامية كان مفاجئاً ومثار تساؤلات عديدة، لم تهتم كثيراً لإعلان (طه) ــ قبيل انعقاد المؤتمر العام بأيام ــ عزمه عدم الترشح للمنصب مرة ثالثة، ورأى البعض أن تحديد الدستور لدورتين فقط لمنصب الأمين العام لم يكن ليحرم النائب الاول لرئيس الجمهورية حقه في الترشح لا سيما وأن الدستور أصبح سارياً من لحظة إجازته ولا يتعامل بمبدأ الأثر الرجعي.
بيد أن الأمين العام السابق فعلها ورفض الترشيح للمنصب، مما دفع بعض المراقبين للربط بين الخطوة وإمكانية ترشحه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة، لا سيما وقد رشحت معلومات عن زهد رئيس الجمهورية الحالي المشير “البشير” في التجديد لأربع سنوات قادمة بعد تجربة في الحكم امتدت لنحو 23 عاماً منذ يونيو 1989.
شبهة توافق بين الحدث واتجاه غالب داخل أروقة الحركة الإسلامية يرفض ازدواجية المناصب خاصة منصب الأمين العام ورئاسة الجهاز التنفيذي للحكومة المركزية أو حكومات الولايات، وعليه فإن ترشح (طه) لمنصب الأمين العام ربما يحظر عليه الترشح لرئاسة الجمهورية، ولكن البعض ذهب في اتجاه أن قرار الأمين العام السابق كان تلبية لمطالبات مجموعات إصلاحية داخل الحركة الإسلامية بضرورة التجديد في دماء الحركة الإسلامية، وأنه لتلافي خروج الأمين العام السابق كان اللجوء لتأسيس هيئة القيادة العليا التي كانت إحدى توصيات مسودة دستور الحركة الإسلامية التي أعدت قبل شهور من انعقاد المؤتمر العام الثامن.
الأمين العام الجديد في حديثه لبرنامج (حتى تكتمل الصورة) (الاثنين) الماضي رأي أن الروح العامة في المؤتمر الأخير للحركة الإسلامية كانت تشير بقوة إلى رغبة كبيرة في الإصلاح والتجديد والتغيير، عبر عنها رفض الأمين العام السابق “علي عثمان محمد طه” تجديد ولايته، وإعلان الرئيس “عمر البشير” عدم رغبته في ولاية رئاسية جديدة عقب نهاية دورته الحالية.
اعتذار غازي
حزمة من التساؤلات ركضت بحثاً لاستجلاء سبب أو أسباب تعميق القيادي البارز بالحركة الإسلامية ما يمكن تسميته (حفرة عزلته) برفضه الترشح لمنصب الأمين العام للحركة الإسلامية رغم شعبيته الواسعة وسط الإسلاميين الذين وقفوا صباح (السبت) في الجلسة المغلقة بقاعة الصداقة يسبقهم التهليل والتكبير لحظة تقدم (صلاح الدين) لمخاطبتهم.
وبحسب(غازي) فإن اعتذاره كان من خلفه رفضه تمرير تعديلات دستورية على نظام الحركة تتعلق بكيفية انتخاب الأمين العام وإجازة الهيئة القيادية العليا برئاسة رئيس الجمهورية، الأمر الذي يجافي دعوات (الرجل) الصريحة بفصل العلاقة ما بين الحركة والسلطة، وإشاراته ــ في مقال نُشر بعدد من صحف (الثلاثاء) 13 نوفمبر 2012 تحت عنوان (الحركة الإسلامية: (اختبارات القوة والأخلاق ) ـــ إلى ضرورة تحديد علاقة الحركة بالسلطة في المستقبل وتعريفها، وأن أهم ما يجب إثباته هو أن الفكرة هي الأسبق والأبقى أما التعبير السياسي عن الفكرة، بما في ذلك السلطان أي الملك، هو عَرَض قد يزول، بل هو لا محالة زائل.
وقوله صراحة إن أي صيغة علاقة تكرس استتباع الدعوة للحكومة وتجعلها محض رديف لها في وظائفها هي صيغة خاسرة للحكومة والدعوة كليهما، وتجربة لا أُفق لنجاحها لأنها تبني العلاقة بين الاثنين على الشك والريبة والرغبة في الاستحواذ، لا على الثقة والاطمئنان. وإن أهم ما ينصر الفكرة ويقوِّي نفوذها هو أن تبقى حرة طليقة.
ويبدو واضحاً أن مخرجات المؤتمر الثامن، جاءت بعكس ما تشتهى سفن (صلاح الدين) بداية بكيفية اختيار الأمين العام ونهاية بتشكيل جسم ثالث برئاسة الجهاز التنفيذي من رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس المؤتمر الوطني ونوابه، ورئيس المجلس الوطني والأمين العام للحركة الإسلامية ونوابه ورئيس مجلس الشورى.
أما فيما يتعلق بكيفية اختيار الأمين العام، فقد حسم الأمر نتيجة التصويت التي لم يشارك فيها ــ تقريباً ــ نصف عدد المؤتمرين الـ (4) آلاف، وذلك بتصويت (1865) لصالح انتخابه عبر عضوية مجلس الشورى الـ(400)، مقابل (650) صوتاً لدعاة اختياره من المؤتمر العام الذين كان من أبرزهم نائب الأمين العام السابق د.”حسن عثمان رزق” ود.”غازي صلاح الدين” ود.”مصطفى عثمان إسماعيل”، ودافع أصحاب هذا المقترح بأن الشورى داخل المؤتمر العام ستكون أوسع.
ولكن الأغلبية وأبرزهم د. “نافع على نافع”، “سامية أحمد محمد”، “الزبير أحمد الحسن”، “رجاء حسن خليفة” رأت أن خيار انتخاب الأمين العام من قبل مجلس الشورى يجعل عملية (الجرح والتعديل) أوسع بجانب أن الشورى غير قابلة للاختراق، وبحسب مصادر (المجهر) فإن جلسة (الجمعة) الماضية المخصصة لحسم الخلاف حول طريقة انتخاب الأمين العام للحركة شهدت مشاحنات وأجواء سادها الصخب.
لم ينكر (صلاح الدين) أن محاولاته إبعاد الحركة الإسلامية من أذرع المؤتمر الوطني والجهاز التنفيذي، كانت تهدف لجعل (الحركة) ــ وهو على قمة قيادتها بفعل تصويت غالبية الـ (4) آلاف عضو ــ مستقلة ووسيلة ضغط على الجهاز التنفيذي لإنفاذ (الفكرة) التي يستعد لحمل رايتها وتأكيده: (إن أهم ما ينصر الفكرة ويقوِّي نفوذها هو أن تبقى حرة طليقة، لذلك فإن من أولى ما يجب علينا أن نكرسه في خطابنا هو الدعوة للحرية والطلاقة والسعة، ورأى أن الحركة كي ما تبقى فاعلة ومناصِرة للحكومة وللدولة في الإطار الأشمل، ينبغي أن تكون مستقلة).
بيد أن تلك الرغبات والأماني اصطدمت بواقع خلاف صوت فيه نصف الحضور على اختيار الأمين العام وبقي النصف الآخر متنازعاً ما بين الغياب واختيار الطريق الوسط، في فعل لم يخف أن ثمة وميض حدد اتجاهه بشكل قاطع إحجام العضوية، وإشارات القيادي بالمؤتمر الوطني ـ عضو الحركة الإسلامية اللواء “الفاتح عابدون”، في تصريحات صحفية (الاثنين) 19 نوفمبر 2012 ـ إلى وجود (6) مجموعات ترفض طريقة اختيار الأمين العام للحركة الإسلامية، لافتاً إلى أن تلك المجموعات غير راضية بما تم، وقال إنه تحدث مع بعض المتذمرين منهم.
علامات التذمر يمكن ملاحظتها أيضاً بوضوح في نبرة نائب الأمين السابق للحركة الإسلامية البروفيسور “حسن رزق” وهو يرفض الحديث لـ (المجهر)، وقوله إنه لا يخشى التصريح لوسائل الإعلام وأنه سيصرح بعد اكتمال المعلومات وبعد (أن نسمع من الفائزين).
هيئة القيادة العليا
هيئة القيادة العليا برئاسة الجهاز التنفيذي من رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس المؤتمر الوطني ونوابه، ورئيس المجلس الوطني والأمين العام للحركة الإسلامية ونوابه، ورئيس مجلس الشورى، كأنما أريد من (خلقها) أن تكون حجراً لصيد أكثر من عصفور، ويبدو أن “غازي صلاح الدين”، كان محقاً وهو يؤكد أنه بمجييء تلك الهيئة أصبح منصب الأمين العام بالـ(ديكوري).
وذلك ما يمكن فهمه بوضوح من تأكيدات رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر العامل الثامن البروفسير “إبراهيم أحمد عمر” في المؤتمر الصحفي أمس الأول (الثلاثاء) بقاعة الشهيد “الزبير” وهو يعلن صراحة: (اكتبوا بالخط العريض أن “البشير” رئيس القيادة العليا للحركة الإسلامية)، وتوضيحه أن المادة 15 في الدستور تنص على أن هيكل (الحركة) يتكون من المؤتمر العام، مجلس الشوري، القيادة العليا ثم الأمانة العامة التي يترأسها “الزبير أحمد الحسن”، وذهب إلى أن المادة 23 حددت مهمة القيادة العليا بمراقبة استقامة أجهزة الحركة ومؤسساتها، بالإضافة للتنسيق والربط وتكامل الأدوار بين أجهزة الحركة ومؤسساتها المستقلة.
المحلل السياسى البروفسير “حسن الساعوري” رسم صورة متشائمة لمستقبل الحركة الإسلامية في ظل قيام الهيئة القيادية العليا، وقال: (الحركة الإسلامية كانت محنطة وهي الآن في طريقها للقبر)، لافتاً إلى أن المؤتمر العام الثامن أكد غياب الحركة الإسلامية عن الفعل السياسي دستورياً، وأن الهدف من الهيئة العليا إغلاق باب الصراع لا سيما أن هناك آراء من قيادات وعضوية الحركة الإسلامية تطالب بالإصلاح، وعلق: (إن أمام الأمين العام الجديد مهمة صعبة جدا في ظل المستجدات).
وحذر “الساعوري” من خطورة جسم الهيئة العليا حال حدوث انقلاب على السلطة وتسلم القوى السياسية المعارضة زمام الأمر، وتساءل: (كيف سيتعامل عرابو الحركة الإسلامية إزاء هذا الوضع الجديد؟، ونبه إلى أن جسم الهيئة العليا لم تشكله أجهزة الحركة الإسلامية، وقال: (الدستور الجديد جاء بشركاء جدد للحركة حتى وإن كانوا من عضويتها).
ما ذهب إليه الساعوري، اجتهد الأمين العام الجديد للحركة الإسلامية فى محاولات تفنيده، وهو يؤكد لبرنامج(حتى تكتمل الصورة) الذي بثته فضائية النيل الأزرق (الاثنين) الماضي، إن إنشاء جسم قيادي في دستور الحركة لن يكون خصماً على منصبه، لأن الجسم مهمته رعاية الخط الاستراتيجي للإسلام كمنهج للحياة، والتنسيق بين المستويات المختلفة، ورأى أن منصب الأمين لو لم يكن ذا قيمة لما قبل به، ولكن منصبه لن يجعله رئيساً خفياً للبلاد، مشيراً إلى أنه جاء بالشورى وليس حلاً توفيقياً، لافتاً إلى أن منصب الأمين العام إذا أريد له أن يكون سلطة فوق رئاسة الجمهورية فإن هذا ليس هو المطلوب، وأن ذلك لم يكن رغبة المؤتمرين.
الاستشفاء ..أم الرحيل ..؟!
الأمين العام الجديد، وقبله رئيس اللجنة التحضيرية البروفسير “إبراهيم أحمد عمر” واللواء عابدون بدأوا ومجموعات من قيادات المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية بدأوا متفائلين بإمكانية الإصلاح في ظل الجراحات العديدة والجديدة على جسد الحركة الإسلامية بعد نحو (68) عاماً منذ أن كانت رؤى يحملها بعض المتأثرين بنبض الإخوان المسلمون في مصر، وفي قناعاتهم أن ما تم وإن صاحبته بعض الملاحظات جاء معبراً عن رغبة وتطلعات أعضاء الحركة الإسلامية الذين احتضنتهم قاعة الصداقة بالخرطوم، إفادات ربما لن يمر وقت طويل حتى نتعرف على دقة وشفافية طرحها وتبيان حقيقتها سواء إن كانت تلك الجراحات سبيلاً للاستشفاء من أمراض زواج (الفكرة بالسلطة) أو أنها أقصر الطرق للرحيل من ساحة الفعل السياسي.