ورحل شيخ "الغبشاوي"
انهد ركن من أركان الحارة الثانية بمدينة الثورة وأحد أعمدتها الأساسية بمسجد الشيخ “أبو زيد البلك” وأحد أعمدة التعليم وقياداته، الشيخ “محمد الأمين الغبشاوي” الذي فارق هذه الدنيا في أفضل أيام الله، أيام ذي الحجة، فارق الدنيا والكل راضٍ عنه، والدليل الجمع الغفير من الناس الذين جاءوا لتشييعه بمقابر أحمد شرفي بأمدرمان، كان الأستاذ “الزبير أحمد الحسن” والبروفيسور “إبراهيم أحمد عمر” والأستاذ “حسن عثمان رزق” الذي كان أحد رواد مسجد الحارة الثانية في سبعينيات القرن الماضي عندما كان بكلية التربية بالخرطوم، وكان أحد قاطني بيت العزابة بالحارة الثانية، وفي معية الأساتذة الأجلاء “حماد عجيب حماد” والأستاذ “عبد الكريم الدنقلاوي” والأستاذ “الحسين” و”ود الترابي” والأستاذ “عمر سليمان” الذي شغل مؤخراً منصب والي ولاية شمال كردفان ومجموعة من الإسلاميين الذين اتخذوا من الحارة الثانية سكناً لهم، وكانوا يؤدون معظم صلواتهم بمسجد الحارة الثانية، الذي كان الشيخ “محمد الأمين الغبشاوي” من عماره ومن أئمته.
كان الشيخ “الغبشاوي” حسن المعشر، حلو اللسان، حريصاً على الشباب أن يعمروا مساجد الله، ورغم عطفه لكن له صرامة الأساتذة، كان حريصاً أن يكون الأطفال في الصفوف الخلفية، كان يقول لهم عندما يتقدم الصلاة: (الأطفال في الصفوف الخلفية)، والأطفال الآن معظمهم كان في موكب التشييع، بكوا عليه بدمع ثخين، والكبار لم يتمالكوا أنفسهم، فأجهشوا بالبكاء، والبروفيسور “إمام عبد الرحيم” الذي أم المصلين في صلاة الجمعة لم يتمالك نفسه، واسترجع شريط من الذكريات مع الشيخ “الغبشاوي” الذي كان أباً حقيقياً لكل شباب المسجد، وعندما يطلق هذا الاسم علينا؛ لأننا فعلاً كنا شباباً وقتها في نهاية المرحلة الوسطى وبدايات المرحلة الثانوية، والجميع كانوا يقضون وقتهم داخل المسجد من صلاة الصبح وحتى صلاة العشاء.. كان الشيخ “الغبشاوي” يعطف علينا وكأننا أبناؤه، وبالفعل كنّا أبناءه، كان الموجه لنا والمعلم، بل أحياناً يجعلنا معه في منزلة واحدة، وكان يفخر بنا بعد أن صرنا كباراً واعتلى كل منّا موقعه في الحياة.. السفير “العبيد محمد العبيد” والبروفيسور “إمام عبد الرحيم” وشيخ “الأمين” و”النجومي” و”كمال محمد عثمان” و”عثمان الشيخ” و”عوض سليم” و”محيي الدين”، وكل الجيل الذي كان يتردد وقتها على المسجد بل حتى الشباب الذين لم يدخلوا المسجد يحثهم على أداء الصلاة، وكانت له علاقات اجتماعية واسعة داخل الحي أو أحياء الثورة المختلفة، كان كبيراً مع الكبار وصغيراً مع الصغار، لم نحس به في يوم من الأيام مكدراً أو غضبان، وكلمة يا شيخ فلان لا تفارقه أبداً، يا شيخ “الأمين”، ويا شيخ “السر” ويا شيخ “مبارك خوجلي”؛ وحتى أنا لا أنسى كان يلاطفني ويقول لي يا شيخ “صلاح”، وأذكر عندما ذهبت للدراسة بالقاهرة جاء ضمن وفد سوداني.. في أحد المؤتمرات التي تعقد ذهبت له بفندق شيرت فاستقبلني استقبالاً طيباً وأدخلني غرفته، وطلب لي العشاء، وعندما بدأنا الأكل، وكنا حديثي عهد بالشوكة والسكين، فكلما وضعت الشوكة على قطعة الفراخ، وأحاول أمرر السكين أعجز عن القطع، ضحك، وقال لي: (يا شيخ صلاح كُل بأيدك كُل، الشوكة والسكين دي لو حاولت ما بتاكل شيء).. هكذا شيخ “الغبشاوي” صاحب قفشات وطرف.. واليوم تفقده الحارة الثانية جمعا، ليس أهل بيته ابنه “إبراهيم” صديقنا ورفيقنا، ولا ابن عمه “محمد عبد الله الغبشاوي” ولا الإخوان “يوسف زيدان” أو دكتور “أحمد آدم” و”سامي آدم” أو”عمر عبد القادر” ولا “عبد القادر الفحل” ولا “التلب”، وكل شباب الحارة السادسة الذين فرقت بيننا وبينهم السبل.. الشيخ “الغبشاوي” كان رابط كل تلك المجموعات باختلاف ألوانها السياسية، كان يتعامل معهم جميعاً من المنطلق الديني داخل وخارج المسجد.
ألا رحمك الله يا شيخ “الغبشاوي” رحمة واسعة وألهمنا وألهم أسرتك وأصدقاءك ومعارفك وتلاميذك الصبر الجميل.