ورحل شاعر (يا ضنين الوعد)!!
أصبت بحزن عميق عندما أخبرني الأخ والصديق والزميل “طاهر محمد علي”، أفضل صحفي يعدّ صفحات الفنون، بعد محادثة قصيرة معه عن وفاة الشاعر العملاق “صديق مدثر” دون أن يذكر أي تفاصيل عن الوفاة التي حدثت بالمملكة العربية السعودية.
استرجعت شريطاً من الذكريات مع الشاعر “صديق مدثر” الذي عرفته تقريباً عام 2003م عندما كلّفني الأخ “عبد المحمود نور الدائم الكرنكي”، ووقتها كان رئيس تحرير صحيفة (الأنباء)، كلّفني بإجراء حوار معه يجمع ما بين العام في الشأن الثقافي والأدبي والفني والخاص عن حياة الشاعر “صديق”، مولده ونشأته ودراساته وأولى محطاته العملية.
كنت مطلعاً على قصائده التي تغنى بها الفنان الكبير “عبد الكريم الكابلي”، (ضنين الوعد) و(يا فتاة الوطن) وكثير من روائعه الشعرية التي قدمته إلى المجتمع السوداني شاعراً يستنطق الصخر العصي.
ذهبت إليه بمنزله بحي الهاشماب، كان بابه مفتوحاً لكل زائر ما عليه إلا أن يطرق الباب و(يلزه) ويدخل، ويأتيه الصوت من بعيد داخل صالة بها أكوام من الورق المبعثر هنا وهناك وراديو صغير وبوتاجاز و(عفش مربط)، ثلاجة وكراسي (الغبار يملأ كل المكان).
“صديق” رجل بسيط ومتواضع.. كان يسكن بمفرده في المنزل، معظم أولاده بالمملكة العربية السعودية، يجالس أصدقاءه من الأدباء والشعراء الذين يزورونه بالنهار، ويلبي بعض الدعوات إن كانت أدبية أو شعرية أو مناسبات أفراح أو أتراح عند المساء.
في الزيارة الثانية بنفس المنزل بالهاشماب وجدت معه الأديب وحافظ أنساب أم درمان وحافظ روائع الحقيبة الأستاذ “بشرى النور”، وجدت الأستاذ “بشرى” يحفظ كماً هائلاً من أغاني الحقيبة، ويحفظ منطقة أم درمان شارعاً شارعاً، قلت له: يمكن أن تستفيد منك الصحيفة في بعض الكتابات مقابل أن تدفع لك راتباً شهرياً. قال لي إن كان للصحيفة أموال فحقي دفعته لـ”صديق مدثر”، بينما اتفقت صحيفة (الرائد) أن تدفع مبلغاً مالياً للأستاذ “صديق” نظير كتاباته، وتحمس الأستاذ “كرنكي” وحملت عدداً من الموضوعات تم نشرها، ولكن لم تلتزم الصحيفة بدفع المبلغ لهذا الرائع الذي ترك لنا كل الدنيا وليس المبلغ الزهيد الذي كانت قد التزمت به (الرائد).
لقد بدأ المبدعون من أهل بلادي يتساقطون، ولا أحد يسأل عنهم.. وشاعرنا “صديق” قبل أن يتوفاه الله كان منارة سامقة في مجال الشعر والأدب، فضلاً عن اللغة الانجليزية التي برع في تدريسها مع اللغة العربية، لم تسأل عنه الدولة ولم يسأل عنه أهل الفكر والشعر والأدب، ولم يتم تكريمه تكريماً يليق بكل ما كتبه عن الوطن.. لقد خلّف لنا “صديق” إرثاً ثقافياً يندر أن يجود به أبناء هذا الزمان.
لقد كتب “صديق” روائعه الشعرية وهو في عزّ الصبا، وعندما كان تلميذاً بالمدارس الثانوية كتب (ضنين الوعد) تلك القصيدة الرائعة التي أبدع في تلحينها وغنائها فناننا العظيم “كابلي”، وأصبحت من القصائد والأغاني الخالدة.
كم من مبدع مثل الراحل “صديق مدثر” لم يُعرف عنه شيء، وكم من مبدع مثله كان ملء السمع والبصر والفؤاد والآن لا أحد يسأل عنه.. نحن أمة نهمل مبدعينا ونهتم بالقشور والفقاقيع والضفادع التي يعلو صوتها ويصم الآذان.
ألا رحم الله الأستاذ “صديق” وأسكنه فسيح جناته وألهم آله وذويه الصبر الجميل.