تحقيقات

مبدعون خرجوا من (حوش) التلفزيون القومي بلا مستحقات!!

كانوا يسيّرون دفة العمل بجانب زملائهم في (حوش) التلفزيون القومي في أمن وأمان، لكن دون سابق إنذار أُعطوا خطابات فصل في الفاتح من مارس الماضي، تم إخطارهم فيها بلغة جافة أن إدارة التلفزيون القومي لم تعد بحاجة إلى عطائهم، دون أن تردّ لهم ولو جزءاً يسيراً من حقوقهم الأدبية، وصبروا على ما جرى باعتباره امتحاناً من العلي القدير رغم المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتقهم، وظنوا أن الإدارة التي فصلتهم ستلتزم بسداد مستحقاتهم كاملة دون نقصان تقديراً لظروفهم الأسرية، لكن ما فتئت الأيام تثبت لهم مع مشرق كل شمس ومغيبها أن آمالهم محض سراب، فمنذ ذلك التاريخ إلى الساعة لم يصرفوا شيئاً من استحقاقاتهم المادية رغم انقضاء مواسم صرف عديدة، فطفقوا يبحثون عن كل منفذ يمكن أن يردّها لهم، لكن باءت محاولاتهم بالفشل.. أما إدارة التلفزيون التي أقصتهم وهم في قمة عطائهم واجتهادهم فلاذت بالصمت، بل الفرجة عليهم وهي تدعم موقفها بأن ذلك يأتي في إطار سياسة التقشف..
{ مدخل أول
(التقشف).. تلك المفردة المستحدثة التي طالت حياتنا لتحدث موازنات إيجابية تعود بها دفة الحياة في مجتمعنا إلى استقامتها، لكن وللعجب فقد أدت تلك المفردة إلى تشريد أعداد من الموظفين الأكفاء الذين ما بخلوا وكانوا على استعداد لإعطاء المزيد، وما حكاية الـ(96) موظفاً الذين تخلت عنهم إدارة التلفزيون القومي في طرفة عين وألقت بهم خارج الحوش إلا واحدة من تلك المآسي التي أحاطت بعنق مجتمعنا، وسببت مشكلات كبيرة لهم ولأسرهم.. العقود التي أبرمها التلفزيون معهم بها نصوص قانونية تفيد أنه في حال تخلي التلفزيون عن أي من المتعاقدين فإن لهم حقاً يكفله لهم القانون، لكن كانت الطامة الكبرى، فالإدارة فصلت أولئك الموظفين واستعلت عليهم ولم تعطهم مستحقاتهم وظلت تغض الطرف عنها وكأن ليس في الأمر مشكل، ليواجه أولئك مصاعب الحياة بعد أن لفظتهم الإدارة فجأة إلى الطرقات، إذ إن إخطارهم بالفصل جاء في الأول من مارس وهو ذات اليوم الذي أنهت فيه الهيئة عملهم بها كموظفين.. فماذا جرى يا ترى؟ وكيف يُسيّر أولئك سفن حياتهم؟ ولماذا لم تف إدارة التلفزيون القومي بسداد ما عليها من مستحقات تجاه أولئك الموظفين؟!
بين أولئك الذين تم الاستغناء عنهم “برامجيون” و”فنيون” و”مونيتيرات” ومخرجون ومصورون ومعدون يقومون بعمليات التخطيط والمتابعة ما أدى إلى تأثر البرمجة العامة للتلفزيون.. تم إبعاد مبدعين كانوا في قمة عطائهم، ويؤدون دورهم كاملاً تجاه المشاهد فيما يتعلق بالمضمون الذي يتم بثه، وبعد صدور قرار الفصل لم يعترض أي منهم لإيمانهم بسياسة الدولة الرامية إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية لكنهم فقط يطالبون بمستحقاتهم المادية لأسباب عدة أهمها حاجتهم الماسة إلى هذه المستحقات ليتمكنوا من إيجاد بدائل تقيهم وأسرهم شر الزمان، وليتمكنوا من تحديد مصائرهم فيما يتعلق بالبحث عن فرص عمل جديدة، خاصة وأن لدى معظمهم خبرات تتلهف القنوات الفضائية العربية إليها، لكن المال يقف عائقاً وحائلاً بينهم والسفر للحاق بركب تلك القنوات ولتأمين الوضع المادي لأبنائهم، وفوق هذا وذاك فإن المستحقات حق يتحتم على الجهات المسؤولة إعطاءهم إياه، فلدى بعضهم عقود جاهزة بتلك القنوات، ولدى آخرين فرص عمل أخرى يتلهفون لإنجازها لكنهم يحتاجون إلى مستحقاتهم أيضاً ليسيروا في طريق الإنجاز.
المنطق يقول إنه من المفترض أن يتم إعطاء الموظفين الذين تم الاستغناء عنهم حقوقهم في ذات اليوم الذي تخلت فيه إدارة التلفزيون عنهم، أي في الأول من مارس الماضي، لكن ذلك لم يحدث، بل لم تكلف الإدارة نفسها أن تلقي على مسامعهم كلاماً طيباً يجبر خواطرهم بعد رحلة عطاء عبرت بوابات سنوات طويلة وهم في حقل العطاء.. وبين أولئك الأستاذ “مدني محمد عمر” الذي يقول إن أمر التخلي عنهم جاء مستفزاً رغم أنهم لم يبخلوا على العمل، (فقد كنت أمكث في التلفزيون أكثر مما أمكث في منزلي)- والحديث للأستاذ “مدني محمد عمر”- الذي يسرد تجربته الشخصية وهو يزيد: (دلفت من بوابة التلفزيون القومي وأنا في التاسعة عشرة من العمر، وقتها كان يتملكني حماس شديد للعمل كان ذلك في العام 1977م وكنت في السنة الجامعية الأولى وتم تسكيني بوظيفة في العام 1979م قبل أن أكمل دراستي الجامعية، وفي العام 1987م تقلدت منصب مدير تلفزيون عطبرة وبذا أصبحت أصغر المديرين في الهيئة في ذلك الوقت).. تلك جزئية مختزلة من سيرة الرجل الذي بدأ عمله حريصاً على التطور والخبرة والعطاء ليتدرج لاحقاً في السلم الوظيفي، ولم ينس مواصلة جمع شهادات التدريب من داخل وخارج البلاد، حيث تلقى عدداً من الدورات التدريبية خارج وداخل البلاد بينها دورة فنية عامة بمدينة القاهرة، ونال رضا رؤسائه في العمل، وتنقل بعد ذلك في إدارات عديدة داخل أسوار الهيئة القومية للتلفزيون، لكن أقصته إدارة الهيئة القومية الحالية بعيداً عن المجال الذي أسهم في تطويره كثيراً.. أستاذ “مدني محمد عمر” لا يمثل فرداً واحداً كفؤاً تم فصله مع المجموعة، فالقائمة مليئة بالمبدعين الذين أثروا وجدان المشاهد وارتبط بهم، نذكر منهم على سبيل المثال الأساتذة “المكتفي بالله إبراهيم سرور”، “المكابرابي”، “مجاهد مأمون”، “موسى محمد علي”، “محمد الناجي حسن” و”أيمن بشير” مدرب مادة الإعداد التلفزيوني بمركز التدريب الإعلامي بوكالة السودان للأنباء.
{ تكالب المحن
بتاريخ 17 يناير 2012م صدرت خطابات رسمية تقضي بفصل عدد (96) من المتعاقدين للعمل في وظائف بالتلفزيون القومي اعتباراً من الأول من مارس، تمشياً مع توجيهات رئيس الجمهورية التي أقرّها مجلس الوزراء، وأصدر قرارات تم تنزيلها إلى أرض الواقع، لكن بقيت تلك الخطابات حبيسة الأدراج ولم يتم تمليكها للمعاملين المعنيين في ذلك الوقت ليتدبروا أمورهم ويسعوا لإيجاد بدائل أخرى لكي لا تنعكس تلك القرارات سلباً على استقرارهم الأسري، إنما تم تسليمهم إياها في الفاتح من مارس دون إعطائهم بارقة أمل لتحصيل مستحقاتهم التي ينص عليها العقد الموقع بينهم والهيئة القومية للتلفزيون، ومنذ تلك اللحظة إلى الآن لم يجدوا رداً وافياً من الجهات المسؤولة عن الأمر، فطفقوا يرددون تساؤلات فرضها عليهم واقع الحال، فأغلبهم مسؤول عن أسر وله أبناء بالمراحل الدراسية المختلفة، وغيرها من المسؤوليات الأسرية، وآخرون لا يجدون ما يسدون به رمق أبنائهم، وبعض أولئك كانوا يستأجرون منازل طُردوا منها لعدم سدادهم الإيجار المتفق عليه بينهم والمؤجرين.. أحدهم كان يعمل مخرجاً بالتلفزيون، متزوج وله طفلان تعرض لفصول من الذل بعد أن طُرد من المنزل لا لشيء سوى عدم مقدرته على سداد الإيجار، وطلب منه صاحب المنزل إخلاءه دون سداد الإيجار الذي عجز عن الإيفاء به.. والقصص من هذه الشاكلة كثيرة بعد أن تكالبت المحن، والمخزي في الأمر أن العاملين كانوا يمنّون أنفسهم بوجود ميزات عديدة تدخل في مظلة مكتسباتهم، بينها أن لديهم ضماناً اجتماعياً لكنهم تفاجأوا بعدم إيفاء الجهات المسؤولة بتلك المستحقات، رغم  استقطاع مبلغ مالي تصل نسبته إلى 10% من المرتب بموجب العقود الموقعة بينهم والهيئة القومية للتلفزيون!
{ (نسأل منو)؟
تساؤل يتردد في نفوس كل المفصولين من إدارة التلفزيون مفاده: ما هي الجهة التي يتوجهون إليها بالسؤال عن مستحقاتهم التي تمثل لهم طوق النجاة مما ألم بهم من مصاب؟ هل يتوجهون إلى إدارة التلفزيون التي لا تريد مجرد إفادتهم بما جرى في ذلك الخصوص؟ أم إلى وزارة المالية بعد أن اختلط عليهم الأمر؟ فقد توجهوا قبلاً إلى إدارة التلفزيون بتساؤلات عديدة لكنها أوضحت لهم أنه تم تحويل أوراقهم إلى وزارة المالية، فيما تؤكد الأخيرة أن الأمر في قبضتهم، وأنه تم تحويل الأوراق إلى وكيل الوزارة وربطوا تنفيذ الأمر بغياب الوكيل، فهم لا يدرون حتى بالإجراءات التي تمت.. هل وصلت الأوراق التي سيتحصلون بموجبها على تلك الاستحقاقات إلى وزارة المالية؟ وهل أدت إدارة التلفزيون دورها كاملاً تجاههم؟
 ثمة أحاديث تدور في ردهات الجهات المسؤولة عن الأمر- أي مستحقات المفصولين- مفادها أن وكيل وزارة المالية رمى بالكرة في ملعب المدير العام للتلفزيون بدفعه تصوراً يقضي بسداد الوزارة نسبة (50%) من المستحقات على أن يسدد التلفزيون الـ(50%) المتبقية من الدعم الذي تمنحه المالية للتلفزيون شهرياً، أي أن تتم برمجته. فيما يرى المدير العام للهيئة القومية للتلفزيون أنه يتوجب على وزارة المالية دفع المبلغ كاملاً دون أن ينقص منه شيء.. وهنا تثور تساؤلات لم تضع فرص حلول للأزمة، وهي: كيف تدفع الدولة ملايين الدولارات لتدريب كوادر سودانية شابة ويتم الاستغناء عنها دون الاستفادة منها؟ هل دافع المدير العام للهيئة القومية للتلفزيون عن منسوبيه المفصولين والدفع بحاجته إليهم ابتداءً؟ هل تواصل معهم بأي شكل من الأشكال التي تعنى بالزمالة؟ كيف يستوي أن التلفزيون لم يسدد مديونياته تجاه منسوبيه ليبرم المدير العام عقوداً مع تلفزيونات عالمية وبعض المؤسسات الأخرى؟ 
لوضع النقاط على الحروف بإيراد وجهة النظر الأخرى، أي الهيئة القومية للتلفزيون، كان لابد من التوجه إلى مباني الهيئة، وبالفعل حملنا خطاباً رسمياً من الصحيفة يوضح غرضنا المتمثل في الحصول على إجابات منطقية عن التساؤلات التي تدور في أذهان المفصولين ومتابعي القضية عن كثب، الذين ظل لسان حالهم يردد عبارة (نسأل منو؟) بعدما أغلقت المنافذ كافة في وجوههم وحار بهم الدليل، ودلفنا إلى المبنى حاملين خطابنا قاصدين مكتب المدير العام للهيئة القومية للتلفزيون بعدما تم توجيهنا بالذهاب إليه للحصول على ما نريد.. أودعنا الخطاب سكرتاريته وعلمنا أنه، أي المدير العام، في رحلة عمل خارج البلاد، فعدنا أدراجنا إلى الصحيفة وظللنا نتابع عبر الاتصال بالهاتف لفترة، ولما لم نجد رداً عملياً ذهبنا إلى مباني التلفزيون ثانية، وهناك سيق لنا وعد بتحديد موعد، لكن يبدو أن ذلك لم يكن سوى تبديد للزمن.. وهكذا فهمنا أن إدارة الهيئة القومية للتلفزيون استعصمت بحاجز الصمت دون أن تلقي بتعليق يفضي إلى حل اللغز الغامض، فالمعروف أنه متى ما اختارت أية مؤسسة فصل أي من منسوبيها فإنها تضع أمر مستحقاته في خانة الإنجاز الفوري بداهة، لكن الهيئة لم تفعل.. ولأن الأمر غاية في الأهمية، ويرتبط بواقع عدد كبير من الأسر، ها نحن ننشر هذا التحقيق حرصاً منا على لفت نظر الرأي العام للقضية عسانا نفلح في بث روح الحماسة في نفوس المسؤولين ليهبّوا وينصفوا أولئك المفصولين بإعطائهم مستحقاتهم التي صاروا في أمس الحاجة لها، وقد انقضى العيد ولا ندري كيف وفّر أولئك متطلبات أسرهم بعدما ازدادت ديونهم بما يوازي استحقاقاتهم لدى التلفزيون وما يزيد في بعض الأحيان، وبلغت حاجتهم أقصاها، فقد سرد بعضهم فصولاً مأساوية مروا بها بعد إقصائهم من الهيئة القومية للتلفزيون ما أدى إلى أن يتحايلوا على الوضع الاقتصادي، فبعضهم باع سيارته، وآخر باع قطعة أرض كان يحتفظ بها ليواجه بها محن الزمان، وأحدهم غلبته الحيلة فهو لا يملك شيئاً سوى كليته التي قال وهو يتحدث عن المعاناة إنه لا يمانع في بيعها ليقي أسرته شر سؤال الناس… هؤلاء المفصولون يناشدون السيد رئيس الجمهورية، والسيد النائب الأول، ومستشار الرئيس، ووزير الإعلام، ووزير المالية برفع الظلم عنهم .. أما نحن فسنواصل الطرق على هذا الملف، بالتركيز على كيفية تفكير المفصولين في نقل مشكلتهم إلى داخل قبة البرلمان أو التوجه إلى مقاضاة التلفزيون أمام محاكم العمل والمحاكم المدنية، فهم أصحاب حق لن يتخلوا عنه طال الزمن أو قصر.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية