أهمية دور السلطة التشريعية بالسودان 2
د. محمد الأمين خليفة
قلنا آنفاً في مقال سابق إن المجالس التشريعية تنوب عن الشعب بأسره في القيام بمهمة التشريع، ينتخب لها من يمثلهم نيابة عنهم في ترجمة إرادة الأمة، لذا حرص الناس أن تنتخب من بينهم أقوى العناصر من الرجال والنساء يتصفون بالفقه التشريعي والاجتهاد واستنباط الأحكام التي تلائم مجتمعهم.
في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان هنالك فقهاء مشرِّعون مجتهدون يستنبطون الأحكام من أدلتها التفصيلية والوحي يتنزل، ولا ينهاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عن التشريع، وكان من أبرزهم “علي بن أبي طالب”، و”عمر بن الخطاب”، و”زيد بن ثابت”، و”معاذ بن جبل”، و”عائشة بنت أبي بكر” وكانوا يطلقون عليهم فقهاء الصحابة، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يشجعهم ولا ينهاهم ليربي فيهم ملكة الاجتهاد، وإذا ما اختلفوا في شيء يرجعون إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيبيِّن لهم ما اختلفوا فيه حتى صارت سنة الخلفاء الراشدين بعد رسول الله ملازمة لسنته وتشريعاً مكملاً للمصدر الثاني من مصادر التشريع وهو السنة.
من نحن؟
إذا ما أسقطنا أدب التشريع والشورى الملزمة علينا نحن أهل السودان نجد إننا سبقنا أمماً كثيرة في هذا المجال لطبيعة ومزاج الجماهير المحبة للشورى والديمقراطية في سائر الأعمال، سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية. وما المؤسسات التعاونية في السودان إلا ثمرة من ثمار الشورى في المجال الاقتصادي الخدمي، وما العرف المتداول والتراضي إلا ثمرة من ثمار الشورى في المجال الاجتماعي، وما المجالس التشريعية إلا هي ثمرة من ثمار التدبير السياسي لتقنين إرادة الأمة في المجال السياسي الذي يحتاج إلى تشريع وقانون محكم.
عرف السودان عبر القرون بحبه للشورى ورفضه لرأي الفرد والزندية، مما جعل الأمر صعباً حتى على دولة واحدة أن تستعمره، بل كان مزدوجاً تغيَّر فيه وجه الاستعمار من تركي مصري (1820م – 1882م) ثم إنجليزي مصري (1898م – 1955م) وفرنسي بلجيكي في بعض أجزائه.
لقد كان التشريع في السودان في عهد التركية السابقة موجوداً في مكونات المجتمعات معروفاً ساري المفعول وليس منكراً، فلم يتمكن الاستعمار من نسخه أو تجاوزه، بل قنن العرف كمصدر من مصادر التشريع والقانون.
أما التشريع في عهد المهدية، من بعد القرآن والسنة كانت منشورات الإمام “المهدي” والخليفة “عبد الله” بمثابة المصدر الثالث للتشريع والقانون، فضلاً عن الأعراف، وكان التشريع في عهد الاستعمار الإنجليزي المصري لم يلبِ طموحات المواطنين، فلم يصمد الحاكم العام البريطاني في التمتع بسلطتيه التشريعية والتنفيذية معاً، ما اضطره أن ينشئ مجلساً استشارياً من الأعيان السودانية في مجلسه الاستشاري أشبه بمجلس شورى القوانين بمصر عام 1883م، ولكن الشعب السوداني وجد أنه لا يمكن تطوُّر برلماني في ظل حكم أجنبي للبلاد، ما أفرز هذا الرفض قيام جمعيات بواجهات أدبية واجتماعية مثل: جمعية “اللواء الأبيض” التي كانت حاضنة للثورات الشعبية التي عمَّت مدن السودان فيما بعد، فلجأ المستعمر لحيلة أخرى بإنشاء مجلس استشاري آخر لا يمثل سلطة تشريعية مما قام بتعديله بإنشاء جمعية تشريعية عام 1948م، وكانت تلك الحاضنة الأخرى بمنح السودان حكمه الذاتي من خلال جلساتها… نواصل