الحوار المدهش حول انقلاب الرائد "هاشم العطا" في 19 يوليو ( 2- 4)
بقلم – صلاح الباشا
ولا تزال ذكريات الملازم وقتها “مدني علي مدني” ابن مدينة عطبرة، وقد كان من الرموز البارزة في التخطيط والتنفيذ لحركة 19 يوليو 1971م بحكم انتمائه للحرس الجمهوري الذي كان يقوده المقدم الشهيد “عثمان حاج حسين” المشهور بـ(أبوشيبة) الذي حدد الضباط من الحرس وأوكل لهم اعتقال أعضاء مجلس الثورة برئاسة “جعفر نميري”.. وقد أتت إفادات “مدني علي مدني” التي لم تجد حظها من الانتباه حينما حاوره زميلنا الصحفي “مؤيد شريف” قبل عدة سنوات.. ولأن العديد من السياسيين ظلت تستضيفهم بعض الفضائيات في برامجها التوثيقية.. فهاهو الملازم “مدني علي مدني” يدحض العديد من الإفادات السابقة لأنها كانت خارج إطار الحدث.. بل كانت أحاديثهم انطباعية فقط.. وبعد اقتناعنا بإفادات الملازم “مدني” كشاهد عيان ومنفذ للانقلاب المذكور.. فقد بدأنا في إعادة تقديم إفاداته التي نرى أنها حقيقية نظراً لرحيل معظم الذين نفذوا تلك العملية من قادة الجيش.
وقد ذكر “مدني” في إفاداته حسب حديث الزميل “مؤيد شريف” الذي نشر بالمواقع الإلكترونية:-
حاولت مراراً وتكراراً أن أقنع الملازم بالقوات المسلحة والمشارك في انقلاب “هاشم العطا”، “مدني علي مدني” بالحديث عن الأحداث التي شهدها بأم عينه وشارك في صناعتها، إلا أنني وفي كل مرة كنت أواجه برفض مهذب ويكتفي بسرد بعض الوقائع المعروفة والمشهورة والتي لا جديد فيها، وأخيراً يبدو أن “مدني علي مدني” قد قرر أن يفتح قلبه لنا ويكشف عن الكثير الذي لم يقال من قبل خاصة وأن المكانة التي كان يتمتع بها “مدني” لدى القائد المهم للتخطيط لانقلاب “19 يوليو” “أب شيبة” والأدوار المهمة التي كان يسندها له بالإضافة إلى أماكن وجود “مدني” خلال الثلاثة أيام التي استولوا فيها على الحكم، فقد تواجد في القصر الجمهوري لحظة اقتحامه من قبل الدبابات وقد تواجد أيضاً في بيت الضيافة قبل ساعة من حدوث المجزرة، فأماكن وجوده هذه تعطي لهذا اللقاء واللقاءات القادمة قيمة تاريخية كبيرة، “فليس من رأى كمن سمع”، وإذا علمنا بأن “مدني” هو من أوكل إليه “أب شيبة” بمهمة إخراج “النميري” ومن معه من القصر واقتيادهم إلى مكان ما وهذا ما لم يحدث، وهو من كان يستقبل المكالمات الواردة لمكتب القيادة ويحولها إلى “أب شيبة”، فإننا نتطلع لمعرفة ما كان يدور داخل القصر قبل وبعد لحظات من “الارتداد المايوي” ودخول الدبابات للقصر والتفاعلات التي كانت تحدث، والمشاهدات التي رواها لنا عن بيت الضيافة والأحداث التي سردها لنا، ولم يخفِ علينا “مدني علي مدني” أن هناك معلومات حساسة تتعلق بالحزب الشيوعي أو تتعلق بأشخاص هم فقط لهم الحق في كشفها ولا يملك الحق في كشفها ويستسمحنا في أن نعفيه من الإجابة عليها، ولقد التزمنا بذلك على الرغم من إيماننا بأن التاريخ هو ملك للجميع.
}بداية تحدث لنا عن تنظيم الضباط الأحرار والأجواء السياسية العامة التي سبقت انقلاب 19 يوليو والأوضاع العامة بالبلاد.. فقال: تنظيم الضباط الأحرار هو التنظيم الذي خطط ونفذ ثورة 25 مايو1969م، كل أطرافه من شيوعيين وقوميين عرب وديمقراطيين ولأسباب معروفة وفيما بعد قاموا بتحالف قوى الشعب العامل وغيرها، والشيوعيون كان لهم طرحهم الخاص بالجبهة الديمقراطية، ومن نفذوا انقلاب مايو هم أنفسهم من قاموا بالدور الأساسي في 19 يوليو 1971م، ففكرة انقلاب 25 مايو كانت للرائد “فاروق حمد الله”، وهذه معلومة معروفة ذكرها مولانا “بابكر عوض الله” (كان رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية في حكومة مايو الأولى)، ذكرها في برنامج أسماء في حياتنا، وكان للمرحوم الشهيد “عثمان حاج حسين” الدور الأساسي في مايو نفسها، فقد كان مناطاً به اعتقال الشخصيات المهمة من وزراء وغير ذلك، ويحفظ له أنه كان من أوائل الذين اعترضوا على الترقيات الاستثنائية التي قام بها “نميري” خاصة ترقيات صف الضباط إلى ضباط وكان يرى أن مثل هذا السلوك يكرس للانقلابات العسكرية، فبإمكان أي ضابط أن يغري صف ضباطه بالترقيات بالإضافة لأنها ستؤثر سلباً على الضبط والربط في القوات المسلحة، فالرقيب الذي يرقّى فجأة لضابط سيثير الغيرة في زملائه لا سيما الأقدم منه، وهذه من ضمن الأشياء التي اعترض عليها “أب شيبة” وحتى هو فرضت عليه الترقية إلى رتبة المقدم قسراً وسلم قيادة الحرس الجمهوري.
يقول البعض إننا تعجلنا قيام 19 يوليو، إلا أنها كانت لها ظروفها الموضوعية التي دعت لقيامها في ذلك التوقيت بالتحديد، يذكر أن تنظيم الضباط الأحرار كانت به تيارات فكرية متنوعة، فالبعض كان ميالاً للارتماء فيما يسمى بالقومية العربية وفي زمن “عبد الناصر” كان هناك نوع من التوازن في طرحه لفكرة القومية العربية، فـ”عبد الناصر” كان يرى أن الوحدة القومية لا تجدي، لأنه كانت له تجربة مع سوريا أيام الجمهورية العربية المتحدة، وهي كانت تجربة قومية جاءت بنتائج عكسية كلفت الدولتين والأمة العربية كلها أثمان فادحة، وبعد وفاة “عبد الناصر” واستلام السادات لمقاليد الحكم وظهور نجم “القذافي” والذي كان يرى في نفسه امتداداً لـ”عبد الناصر” وخليفة له، والذي يفترض به أن يقود الأمة العربية باتجاه الوحدة، هذا كان قبل أن ييأس من العرب ويتجه إلى أفريقيا، وفي تلك الفترة عادت للسطح من جديد فكرة الوحدة بين السودان ومصر وليبيا وانسحبت سوريا لظروف تخصها. “جمال عبد الناصر” كان يرى أن الوحدة لا بد أن تكون تدريجية وليست اندماجية وتبدأ من الشعوب عن طريق فتح الحدود وتحرير التجارة وإرساء قواعد للتكامل بين شعبي وادي النيل، “السادات” عندما أتى للحكم استعجل مسألة الوحدة، وأذكر أن الصحفي المصري “صلاح حافظ” كتب مقالاً في مجلة صباح الخير أورد فيه أن أرض السودان وأموال ليبيا والخبرة المصرية هي مقومات الوحدة المطلوبة بين الدول الثلاث، وكانت بعض القوات المصرية مرابطة بجبل أولياء وأيضاً بعض المشاة الليبيين والحجة التي اعتمد عليها المصريون لنشر قواتهم كانت حرب الاستنزاف.
نشأ صراع قوي داخل تنظيم الضباط الأحرار بين القوميين العرب والذين رأوا في أنفسهم الأحق بقيادة التنظيم من أجل تسريع الوحدة الاندماجية، وحدثت اختلافات في وجهات النظر ونجحوا في أن يوعزوا لـ”النميري” عبر “فاروق حمد الله” وكان الرجل القوي ولم يكن شيوعياً ويقال إن له بعض العلاقات مع القيادة الثورية جناح “يوسف عبد المجيد” و”أحمد الشام”، والبعض يقول إنه ينتمي للبعثيين، لكن المعروف عنه أنه كان محايداً وكان وطنياً وله ميول يسارية – وكانوا يعلمون أن “فاروق حمد الله” ليس شيوعياً لكنه الرجل القوي والذي بوجوده لا يستطيعون أن يسيطروا على “جعفر نميري” وقد قالوا قبلاً إنهم أتوا بـ”جعفر نميري” لأنهم يستطيعون أن يملوا عليه إرادتهم وكانت هناك أسماء أخرى مطروحة من قادة مايو لإقناع الجيش ومنهم “مزمل سلمان غندور” و”أحمد الشريف الحبيب” و”الرشيد نور الدين” وغيرهم، إلا أنهم عرفوا بقوة شخصيات الأسماء الآنفة الذكر وأنهم يريدون شخصاً يستطيعون أن يملوا عليه شروطهم، فاتفقوا على “جعفر نميري”، الأكيد عندي أن لا دور لـ”نميري” في 25 مايو تحديداً، فقد جيء به كصورة لإقناع الجيش باعتباره عسكرياً جيداً وهذه حقيقة، ولكنه لم يكن رجل سياسة أو رجل أفكار وأيديولوجيات ديمقراطية كانت أو اشتراكية أو حتى إسلامية كما اتضح في الأخير، فأوعزوا لـ”النميري” بأن الضباط الأحرار يعملون على نقل الصراعات والحوارات التي تدور في مجلس قيادة الثورة إلى الشارع العام وإلى الحزب الشيوعي، وشخصية “نميري” كما اتضح للناس فهي شخصية الرجل “السميع”، فبادر بإعفاء “فاروق حمد الله” و”بابكر النور” و”هاشم العطا”، وفي الحقيقة لم تكن هناك في الأساس أسرار ينقلها هؤلاء، فالخرطوم كانت وكعادتها تموج بالأحاديث السياسية، فالناس كانوا يحسون بالسرعة الرهيبة التي تجري بها الأحداث لنقع في أحضان “السادات” ومصر وليبيا وغيره، وبعض الصحف المصرية كانت تروج للفكرة الاندماجية، وبسبب كل هذه الملابسات عمل الثلاثة المقالون وآخرون لتكوين تنظيم داخل تنظيم مايو أطلق عليه تنظيم أحرار مايو وأغدق عليه الكثير من الأموال وكان على رأسه ومسؤولاً عنه “أحمد عبد الحليم”، وكان في الجيش المصري وهو شقيق “محمد عبد الحليم” الذي ألقي القبض عليه في بيروت ومعه “خالد حسن عباس” والذي كان وزيراً للدفاع في ذلك الوقت.
تم تعيين “أحمد عبد الحليم” قائداً عاماً للمدرعات وأصبح يرأس قائد اللواء الأول مدرعات “عبد المنعم محمد أحمد الهاموش” وقائد اللواء الثاني دبابات العقيد “سعد بحر” وقتها، يذكر أن العقيد “عبد المنعم محمد أحمد الهاموش” رقي استثنائياً من قبل “نميري” من مقدم إلى عقيد في 15مايو 1971 م في يوم احتفال المدرعات وهو نفس اليوم الذي اعتقل فيه “السادات” مجموعة “علي صبري” ومراكز القوى الأخرى وصرح أنه “سيفرمهم فرم”، وأذكر أن رياحاً عاتية ضربت ساحة الاحتفال في ميدان اللواء الأول مما أجبر القائمين عل أمر الاحتفال على تحويل الاحتفال إلى “الميز” وعودة العائلات، وفي ذات اليوم أصدر “النميري” أوامره بترقية “عبد المنعم الهاموش” من مقدم إلى عقيد و”علي علي صالح” أيضاً رقي إلى عقيد، وتمت ترقية جميع أفراد فرقة الجاز التابعة للمدرعات إلى رقباء أوائل وصولات، وفي اليوم الثاني مباشرة نشبت أزمة في سلاح المدرعات وحدثت فوضى وحل الضبط والربط بسبب ترقيات “النميري” الاستثنائية للدرجة التي أجبر فيها “النميري” لإحالة أمر تنفيذ الترقيات إلى وزير الدفاع “خالد حسن عباس”، واستخدم “خالد حسن عباس” خطاباً عاطفياً أمام الجنود استطاع من خلاله تمرير الترقيات.
أما عن أفراد تنظيم أحرار مايو لم يكونوا معروفين بالنسبة للمايويين وأن “أبو شيبة” كان جزءاً من التنظيم، بل على العكس فنحن من كنا على علم تام بكل أفراد تنظيم أحرار مايو والذين سعوا لفرض الوحدة مع مصر وليبيا بكافة الوسائل والأشكال حتى لو أدى الأمر لفرضها بالقوة على الشعوب.
في بداية الأمر تحدث معظم الناس ومنهم “هاشم العطا” وهو عضو مجلس الثورة في مايو مع “النميري” في محاولة لإقناعه بضرورة العدول عن فكرة الوحدة الاندماجية، إلا أن “النميري” لم يكترث للأمر واعتبره مجرد “تخرسات شيوعية” وافتراء شيوعيين يريدون أن يهيمنوا ويسيطروا.. ولم ييأسوا وحاولوا نصح “النميري” من جديد إلا أنه لم يسمع لهم واستمر في سياسته.
أما عن أسباب الإشكال والاختلاف في مجلس ثورة مايو،
فقد بدأ بين الشيوعيين و”نميري” منذ ضربة الجزيرة أبا، وبعد نهاية الضربة اتهم “النميري” الشيوعيين بمنعه من ضرب “الرجعية” في الجزيرة أبا، ومن المعروف أن الشيوعيين اعترضوا على ضرب الأنصار في الجزيرة أبا ليبدأ نقاش داخل تنظيم الضباط الأحرار والذين اعتبروا أن هناك أيادي أجنبية لعبت أدواراً خفية في موضوع الجزيرة أبا حتى تضرب القوى الرافضة للوحدة الاندماجية العربية بين السودان ومصر وليبيا.
ومن المعروف أن الرائد “فاروق حمد الله” والرائد “هاشم العطا” عارضا وبالصوت العالي في مجلس الثورة ضربة الجزيرة أبا في مارس 1970م.
نواصل