السودان مع الأحزاب.. بدأت رحلة العذاب!!
بقلم – د حجازي إدريــــــس – مستشار اقتصادي
يبدو أن الإنجليز حين غادروا أكبر مساحة عربية ومنحوها استقلالها كانوا قد أحكموا إغلاق الـ”قنينة”- تلك التي يقبع في قعرها الآن “مارد” الحلم- ولا أخاله إلا يتساءل منذ عام 56 من يفرك الحلم السوداني البهيج ويخرجني من هذا القمقم ليكون سلة غذاء العالم؟!
وبداية، لا بد من الاعتراف أن استعمار الإنجليز للسودان قد منحهم فرصة ذهبية لسرقة مدخراته، لكن في المقابل كانوا يأكلون وكان السودانيون كذلك يأكلون من خيرات بلدهم.
ولكن الإنجليز لم يكن ضمن مسروقاتهم التي ضبطها التاريخ وضمّنها في سجلاته ومحاضر التحقيق ــ لم يكن “عمر” الإنسان السوداني من ضمنها!
فمن سرق ذلك العمر؟ من يعيد تلك السنين: حين كان الجنيه السوداني يساوي جنيه وربع الجنيه الإسترليني؟ وثلاثة عشر ريالاً سعودياً؟ حين كانت جامعة الخرطوم في قيمتها وثقلها العلمي تعادل جامعات أوروبا بل أقوى؟ والآن خارج تصنيف الـ(5000) جامعة في العالم.. حين كانت أبواب الكلية الحربية مفتوحة على مصراعيها دخل وخرج منها (90%) من القادة العسكريين العرب؟ حين كان السودان “ماكينة” التفريخ الأكاديمي لأكثر من (350) ألف عالم في جميع التخصصات والفنيين وأصحاب المهن الوسيطة يقرضون الغربة الآن في بناء البلدان ولكنهم في مفارقة المعادلات الصعبة عجزوا عن بناء بلدهم؟ فمن سرق كل ذلك؟!
لا أحد سوى “الأحزاب” الذين بدأت معهم رحلة عذاب الإنسان فهم من سرق من عمره كل هذه السنوات التي تجاوزت (70) عاماً: حزب الأمة، الوطني الاتحادي، أحزاب اليسار، حزب المؤتمر الوطني وحزب المؤتمر الشعبي، أفرغوا الخدمة المدنية المؤهلة التي لا تنتمي لتياراتهم الحزبية للسيطرة على السلطة، ما نتج عنه هذا التشرذم الوطني والتخلف عن ركب الحضارة الأممية.. وما يدعو للشفقة حينها، تخيّل الحالمون من شعب السودان أن الأحزاب الأربعة الكبيرة من فصيل الأجنحة التي تشي بتحليق واعٍ يضمن لهم عبور فضاءات المرحلة إلى فضاءات أخرى تعزز رغد العيش!
ثم ماذا؟ ولأن الفرد السوداني لا يجني من الشوك العنب، فقد جنى هذا الغباء السياسي المؤصل لدى الأحزاب السابقة أحزاب أخرى وصل عددها الآن (120) حزباً، هي من ذات الشوك الذي يسير عليه المواطن السوداني البسيط حافي القدمين!
وإذا نظرنا إلى دول أوروبا وأمريكا النموذج الناجح لخدمة مواطنيه، لا يصل عدد أحزابها أصابع اليد، لأن التنافس على البرامج التي تخدم المواطن أينما كان والوطن.
أكبر الأحزاب السودانية التي أسست منذ عام 1943م أي منذ (74) عاماً، لم يتنافسوا قط على برنامج اقتصادي سياسي اجتماعي يصب في مصلحة الوطن والمواطن، وإنما الصراع والتنافس للوصول إلى السلطة التي تمزقوا وانقسموا وتصارعوا وتحاربوا من أجلها.. فكم عدد أحزاب الأمة والاتحادي والإخوان واليساريين، الأصل والصورة؟ لا أحد يعرف، حتى صار عدد الأحزاب من أجل السلطة قريباً من عدد دول العالم.
الديمقراطية أو الشورى التي تتشدق بها الأحزاب غير موجودة في نظامها الأساسي أو دستورها، فرئيس الحزب هو رئيس مدى الحياة، يورث الابن من بعده أو أقرب المقربين حتى لا يخرج الحكم من هذه الدائرة التي رسمت وفق النظرة الحزبية الضيقة الأفق. هم قادرون فقط على تأجيج الصراعات من أجل التقسيم الوزاري الذي يعد بالنسبة لهم مربط الفرس، وهم قادرون فقط على منحك في المستقبل “شوالاً” ضخماً تملأه بآلاف الجنيهات السودانية تذهب به إلى سوق الخضار لتشتري “حزمة ملوخية” أو ربطة “جرجير” واحدة فقط..
أليست قيمة الدولار تساوي أكثر من 15 ألف جنيه سوداني قابلة للزيادة؟ وربما لا تعرف الأحزاب أن السودان يمتلك (200) مليون فدان صالحة للزراعة، (200) ألف طن من الأسماك تسبح في مياه السودان، وأكثر من (150) مليون رأس من الثروة الحيوانية، والقائمة طويلة من خيرات في ظاهر الأرض وباطنها، خاصة آلاف الأطنان من معدن الذهب.
ومع ذلك الموانئ البحرية تستقبل المنتجات السودانية الصرفة من الزراعة.. أليست “الويكة” ومنتجات الألبان وزيوت الطعام والسكر والخضروات والفواكه منتجات سودانية صرفة، وغيرها كثير أصبح يصنع الآن في الخارج ثم يشحن إلى موانئ السودان بقيمة بلغت أكثر من اثنين مليار دولار في إحدى السنوات الأخيرة استنزافاً للنقد الأجنبي على قلته، وهذه المليارات لو صرفت على التنمية الزراعية والثروة الحيوانية والسمكية لزادت حصيلة الصادر من النقد الأجنبي، لتنخفض الفجوة في ميزان المدفوعات، وتعود للجنيه السوداني عافيته.
إنني أتساءل.. ما بعد حقبة الاستقلال وتوالي الحكومات الحزبية، وتم اختزال المعاناة في حوار وطني أعرج سار متكئاً على إرثٍ من عبث الأحزاب وخيبات الأمل، خصص للكوادر العلمية والكفاءات الوطنية (المستقلة) عن أي انتماء حزبي، يمارسون من خلاله دور “الفرجة” على جهلة الأحزاب الذين خصص لهم ميدان القرارات المفصلية، وتم إرضاء الأحزاب بعدد (79) منصباً وزارياً لخدمة (39) مليون مواطن، بينما دولة الصين بها (18) وزيراً اتحادياً لخدمة مليار و(371) مليون نسمة، ودولة الهند بها (31) وزيراً لخدمة مليار و(311) مليون نسمة، وأمريكا وعدد سكانها (321) مليون نسمة موزعين على (50) ولاية بها (15) وزارة اتحادية.. إلى متى يظل السودان ضيعة تمتلكها أسر ومجموعات بلا برامج وطنية لخدمة السودان والسودانيين الذين يأكلون الحصرم وهم يزدادون جبروتاً وثراء، وفرضاً لآرائهم الحزبية التي أدت التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي يشهده السودان؟!
أرجو أن يقود السادة الأدارسة تكوين (تكتل سياسي اقتصادي اجتماعي مستقل) لتحرير أهل السودان من شظف العيش والزهد الممنهج الذي فرضته عليهم الأحزاب منذ مغادرة الاستعمار البريطاني أرض السودان، لما يملكونه من ثقة شريحة كبيرة من الشعب السوداني شماله وجنوبه، شرقه وغربه. والأدارسة لم ينساقوا البتة خلف المغريات السياسية، ولم تمثل السلطة أدنى هاجس لهم، وحين أطالبهم بالقيام بهذا الدور المفصلي في تاريخ السودان، فإني أدرك مسبقاً أنهم لن يتخلوا عن إرثهم الأخلاقي الذي كسبوا به محبة الناس وثقتهم. ولكنهم سينطلقون من خلاله إلى أفق أوسع كقوس قزح يحوي ألوان الطيف السودانية، وبذلك نكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح الذي نقضي بمساره على المفهوم الرديء للوطنية التي تقاس بالانتماء الحزبي ضيق الأفق واسع الشراهة للمكاسب الشخصية والحزبية فقط!
لذا فإن إنشاء (تكتل سياسي) من تكنوقراط الكوادر العلمية المهمشة الذين يعدون بالآلاف داخل السودان وخارجه، المستقلين عن أي انتماء حزبي بات ضرورة لإدارة الدفة السياسة والاقتصادية في السودان الآن بعد الفشل الذريع للأحزاب.
فالمواطن السوداني ما هو سوى “أيقونة” منسية من زمن الاستعمار البريطاني، لذا فهو حالم جداً حين يعتقد أن هذه الأحزاب بتركيبتها هذه قادرة على “فرك” المصباح السحري ليخرج منه مارد أحلامك لتأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع وتصبح سلة غذاء العالم.. فكفى السودان والسودانيين.. عذاباً.. يا أحزاب.