ومن الشعر ما قتل (قصة أبو الطيب المتنبي)
بقلم – معاذ زكريا المحامي
يعدّ “أبو الطيب المتنبي” أحد أعظم شعراء العربية على مر العصور، بل إن البعض يرى فيه مفخرة الشعر العربي ومعجزته الخالدة، تتميز مفرداته بالقوة والجزالة وتلمس في شعره الكثير من الحكمة، وهو صاحب العديد من الأمثال التي لا نزال نتداولها حتى يومنا هذا.
“إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم”.
“إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم”.
“ليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.
“أعز مكان في الدُنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب”.
جمعته علاقة مودة وصداقة بـ”سيف الدولة الحمداني” الذي كان حاكماً لمدينة حلب، و”المتنبي” صاحب كبرياء شديد، يقال إنه لما وفد على “سيف الدولة” طلب منه أن يمدحه وهو جالس، لا واقفاً كما كان يفعل باقي الشعراء، وكان أحياناً يبدأ بمدح نفسه والتفاخر بها ثم يدلف إلى مدح “سيف الدولة”.
ويقال إنه لولا “أبو الطيب المتنبي” لما ذاع صيت “سيف الدولة الحمداني” ولما عرف الناس عن أمره شيئاً، فكثير من الملوك والأمراء قد لا نعرف لهم اسماً أو نرى لهم أثراً، لكن أشعار “أبو الطيب المتنبي” هي ما خلدت اسم “سيف الدولة الحمداني”.
وهذا هو فضل الشعر أنه يرفع ذكر أقوام ربما لولا الشعر لما سمع بهم أحد.
مدح الشاعر “زهير بن أبي سلمى” “هرم بن سنان” و”الحارث بن عوف” للدور الذي قاما به في الصلح بين قبيلتي “عبس” و”ذبيان”، وذات مرة لقي “عمر بن الخطاب” أبناء “هرم بن سنان” فقال لهم (لقد أحسن “زهير” فيكم القول)!! فردوا عليه: (ونحن كنا نحسن له العطاء)، فقال لهم “ابن الخطاب”: (لقد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم).
بعد عشر سنوات قضاها “المتنبي” في بلاط “سيف الدولة الحمداني” ساءت العلاقة بينهما، فقرر على إثرها “المتنبي” ترك مدينة حلب متوجهاً نحو مصر والتي كان يحكمها “كافور”، إلا أن “أبا الطيب” لم يلق عند “كافور” ذات الحفاوة التي لقيها عند “سيف الدولة”، واتسعت المسافة بينه وبين “كافور” وساءت العلاقة بين الاثنين، فهجا “المتنبي” “كافور” ووصفه بأقذع الأوصاف وعيره بأصله، وفي هذا عنصرية بغيضة من شاعرنا الكبير:
“لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد”.
ترك “المتنبي” مصر، وقفل راجعاً إلى الكوفة- مسقط رأسه- وفي طريق عودته، اعترضه نفر من الناس كان “أبو الطيب المتنبي” قد هجا قريباً لهم يقال له “ضبة الأسدي” وإن كان المدح في ذلك الزمان يرفع شأن قوم، فإن الهجاء كذلك يحط من شأن قوم آخرين. هجا “جرير بن عطية” ذات مرة رحلاً من قبيلة يقال لها (نُمير) فقال فيه:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا
فكان الواحد منهم إذا سئل عن أصله، لم يقل إني من نُمير، بل يقول أنا من عامر، وعامر هو جد القبيلة.
وكان مما قاله “المتنبي” في هجاء “ضبة الأسدي” وأمه هذا البيت:
“ما أنصف القوم ضبة وأمه الطرطبة.. فلا بمن مات فخر ولا بمن عاش رغبة”.. إلى آخر الأبيات.
فلماذا رأى “أبو الطيب” أن خصومه يفوقونهم عدداً، لاذ هو ومن معه بالفرار، فقال له غلامه: أو لست أنت القائل:
“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم”
فقال له “المتنبي”: صدقت، ثم عاد إلى أرض المعركة فاستبسل حتى قتل
فإذا بالأشعار التي لطالما تفاخر بها “المتنبي” تكون السبب في موته.