* أهل الابداع…إلى متى يتجرعون مرارات الاهمال؟
معاناتهم تزداد وتتضاعف ببلوغهم سن المعاش أو بالمرض
* حمد الجريف، ونظراؤه ، يهوون من سماء النجومية الى أرض النسيان!
* المخرج عيساوي يدعو الدولة لتقسم النبقة مع المبدعين
تحقيق – هبة محمود
كان قدره أن يتحسس تفاصيل الزمن المنزلق بين يديه ويسترجع شريطاً لشهرة تذوق شهدها سنوات طويلة، قبل أن يجور عليه زمانه فيجرده من شهرته تلك، ويحرمه شهدها، رامياً به في منطقة نائية غرب مدينة الصالحة (أم درمان) بمنزل (بلا سقف) عجز عن إكماله، وزوجة مصابة بالشلل سنوات طويلة، يعمل على رعايتها، طاهياً ومعالجاً ومرافقاً، بعد أن أنفق كل ما يملك لعلاجها.
ظروف قاسية عاشها الفنان “عثمان إبراهيم بابكر”، الشهير بـ”عثمان الأطرش”، وهو الذي رفد المكتبة السودانية يوماً ما بروائع الأغنيات، أشهرها (بت بلدي أصلك سوداني.. طبعك هادي أصيل ورزين) ورفيقاتها الأخريات من أعماله، اللواتي مكنته من إحراز المركز الأول في مهرجان الثقافة الثالث إبان العهد المايوي، ولكن يبدو أن ما قدمه (الأطرش) لم يحمه من جور الزمان والإهمال، الذي يناصفه فيه غيره من المبدعين ممن يواجهون ظروفاً مماثلة، أو أقل منه بقليل، ليظل قاسمهم المشترك هو الإهمال والمعاناة من قبل أجهزة الدولة المعنية، والكيانات التي ينتمون إليها، وهنا يقفز سؤال إلى متى يظل أهل الفن والإبداع في بلادي يتجرعون مرارات الإهمال عندما تأفل نجوميتهم!؟
بين يدي النسيان:
ثمة أشياء كثيرة من شأنها أن تكون مبعث ألم وحزن داخل المبدع، ولكن أكثرها وقعاً هو أن يجد نفسه حين لحظة من الزمن منسياً ومهملاً، بعد أن ظل يقدم عصارة جهده لإسعاد الناس ومداواة جراحهم عبر اللحن والكلمة والإيقاع والريشة وغيرها من أدوات الإبداع المختلفة. والفنان “عثمان الأطرش” ليس سوي قطرة في بحر إهمال المبدعين، وتثبيط هممهم، فـ(صاحب القدم الذهبية) الشهير بـ”حمد الجريف”، أيضاً هو وجه آخر لمعاناة مختلفة الطقوس، أبعدته عن الملاعب وأضواء الشهرة وحولته من لاعب كرة قدم شهير في الثمانينيات إلى بائع خضار في سوق الجريف، خبيراً بأصناف الخضر وأسعارها وعالماً بخباياها، دون أن تقدم له الأجهزة المعنية أي دعم تقديراً لمسيرته الكروية، والذين قاموا بمساندته هم سكان منطقة الجريف بعد قيامهم بعمل طوعي وتوفير (تربيزة الخضار) له عقب امتهانه لعدد من المهن التي لم يحالفه الحظ فيها.
مبدعون …. في سجلات الاهمال:
نماذج كثيرة يعج بها دفتر إهمال المبدعين، الذي يضم في ثناياه عدداً من الأسماء اللامعة في مختلف مجالات العمل الإبداعي، الذين لم يتوانوا يوماً ما في رسم البسمة على وجوهنا وإسعادنا. أسماء وراؤها مختلف القصص والروايات الحزينة، التي ينفطر القلب لوقعها، ولعل وفاة المخرج “جلال البلال” وحيداً في منزله مؤخراً واكتشاف الوفاة لاحقاً واحدة من قصص الإهمال التي جددت الأحزان، وفتقت جراح المعاناة التي تواجه المبدعين، سيما أن الرجل لم يكن بحاجة سوي لجرعة دواء تشفيه، وهو بحسب المقربين إليه، قام ببيع هاتفه من أجل لقمة طعام تكفيه، بعد أن ظل يطارد متأخراته المستحقة بـ(التلفزيون القومي) التي تأخر أوان صرفها لأجل إنفاقها في استشفائه، لينهي بوفاته حياة مليئة بالإبداع ويغادر حزيناً ووحيداً.
نبيل متوكل مقعد، في كشف الاهمال:
الدرامي “نبيل متوكل” صاحب الطلة الرشيقة والضحكة الحلوة هو أيضاً احد الأسماء التي يتضمنها دفتر الإهمال، عقب تعرضه للشلل الكامل جراء إصابته بغضروف العنق، الأمر الذي ترتب عليه إخضاعه لعمليتين جراحيتين بتكلفة 60 ألف جنيه، تكفل بجميع نفقاتها بنفسه، بعد أن قام ببيع سيارته، مؤكداً لـ (المجهر) أن الدولة أولته اهتماماً في بادئ الأمر بعد أن تكفلت وزارة الثقافة الاتحادية بحوالي 24 جلسة علاج طبيعي بقيمة 12 ألف جنيه فقط، ولم تجد الجلسات نفعاً، وقال مستعبراً: الآن أصبحت مقعداً أعاني الإهمال والمرض، بعد أن أنفقت كل ما أملك في سبيل العلاج سيما أننا في هذه المهنة ليس لدينا معاش أو حقوق أو فوائد ما بعد الخدمة، بعد أن تركت مهنتي ووظيفتي التي كنت أشغلها (موظف إداري) واستبدلتها بالتمثيل الذي أعشقه.
“نبيل متوكل” بدا نادماً على 40 عام من عمره وهبها للعمل المسرحي جاب خلالها جميع ولايات السودان دون مقابل، لافتاً إلى أنه أمضى حوالي 18 سنة في العمل مع الأستاذ “الفاضل سعيد”، وبعدها مع الأستاذ “عماد الدين إبراهيم”، وقال: أعطيت المسرح 40 سنة من عمري، سافرت خلالها وساهرت، وأهملت أسرتي التي لم تكن تراني إلا قليلاً، وأضاف: كنت أقضي في كل جولة حوالي ثلاثة أشهر، أعود بعدها إلى أسرتي وأجلس معهم وقتاً قليلاً، ثم أعود للسفر مرة أخرى، طفت السودان شرقاً، وفي نهاية الأمر لم أجد أي تقدير نظير ما قدمت، وما داير من الدولة أي حاجة.
معاناة مرحلة المعاش:
ومن واقع تجربته الفنية والإبداعية ومعرفته بمكنونات الوسط الإبداعي وخباياه، اعتبر المخرج “إسماعيل عيساوي” بأن المبدعين في شتى المجالات وخاصة المجال الإعلامي تحديداً يعانون من الإهمال، سيما أن الأجهزة الإعلامية والصحفية عائدها المادي غير مجزٍ، بالكاد تتيح لهم العيش الذي لا يتناسب مع مكانتهم، لافتاً إلى أن معاناتهم تزداد وتتضاعف ببلوغهم سن المعاش أو إصابتهم بأمراض، وحينها يصبحون عرضة للوحدة والأمراض، دون أن يجدوا من يوليهم اهتماماً، وقال: بعيداً عن معاناة المبدع في المجال الإعلامي، فقد عايشت حالات مختلفة لمعاناة مبدعين في مجالات أخرى وإهمالهم، فقد كان للمخرجة “فاطمة عيسى” مأساة ينفطر لها القلب بعد عجزها عن فك رهنية منزلها، الذي رهنته لأسباب مادية مما اضطرها لبيعه في مزاد علني، لتصبح بلا منزل وتتوفى، وأضاف: الأسماء كثيرة في قائمة الإهمال، التي يتعرضون له، فمن غير الممكن لمخرج مثل “جلال البلال” أن لا يتعدى راتبه مبلغ 1500أو 1600 جنيه، وغيره كثر، وزاد: الضرورة تستدعي إيجاد حلول جذرية لما يعانيه أهل الإبداع في شتى مجالاتهم، رغم أن صندوق المبدعين يقدم بعض الإعانات إلا أن ما يقدمه شحيح، فمن المفترض أن تكون الرعاية أكبر من ذلك بكثير، بحيث أن تكون هناك معاشات شهرية ذات قيمة عالية تكفي المبدع السؤال، نحن نعلم أن الدولة مصادر دخلها في الإنتاج غير كثيرة، ولكن من المفترض أن تقسم (النبقة) مع المبدعين.