من وحي الأخبار

أم الرجال

أعلنت القوات المسلحة صدور قائمة بإحالة عدد من الضباط من مختلف الرتب للتقاعد، فيما بالضرورة تمت ترقيات لآخرين وهو إجراء إداري معتاد وسنة راتبة داخل الجيش؛ بل وفي كل القوات النظامية الأخرى من الشرطة إلى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، يجري هذا القرار في مجرى طبيعي لم يتغير على مرور السنوات؛ سواء بحجية (وفاء المدة) لمن أكملوا سني خدمتهم أو بناءً على استحقاق الترقي بعد بلوغ الأقدمية وموجبات الانتقال لرتبة أخرى أو لأي أسباب استثنائية تجوز الفعلين؛ ولذا لا يبدو الأمر غريباً أو به شبهة مثيرة للثرثرات على نحو ما يود بعض الذين ينتظرون مثل هذه المناسبات لدق طبول الفريات على مؤسسة ذات تقاليد راسخة ومرعية في الوفاء؛ علمت رجالها وجذرت فيهم حب هذا الوطن فيخرج الخارج منهم وهو أشد ولاءً للجيش وبلاده لا يضره من كفر في قطاعات أخرى.
ترجل بالأمس رجال أوفياء أتقياء؛ سبقت منهم الحسنى لبلادهم جهاداً وعملاً؛ تقلدوا أوسمة البطولة والشجاعة أنواطاً مطهمة ووشيت أجسادهم بالدم في مواطن كثيرة وكلمت صدورهم وأطرافهم فما ازدادوا إلا يقيناً بموقفهم في الحق  كانوا في مقدمة الصفوف؛ ما انكسر لواء الصبر والجسارة بين أيديهم وما تعسر؛ أنجز بعضهم مهامه في مواطن النزال وعاد وخرج بعضهم إليها؛ ما كلت عزيمتهم وما تراخت فظل بهم الجيش بشارة النصر وحامي الحمى ومؤسسة تبيت بمنجاة عن اللوم إذا الملامة ببيوت حلت. قوات سودانية وطنية جسورة كانت معلماً في تاريخ السودان القديم والحديث؛ عركت نوائب المؤامرات وخبرت تفاصيل المواجهة وظلت كما هي كلما استقام تحد عبرته لا تسأل الناس إحساناً ولا شكوراً؛ تمضي في كل حقبة لتبقى هي المبتدأ والمنتهى في مقامات التواريخ والسير.

أعرف شخصياً بعض الذين ترجلوا بالأمس؛ معرفة خندق؛ وبتفاصيل بيان بالعمل؛ كانوا أوفى الرجال وأشجعهم وأصدقهم؛ عاشوا سنوات العسرة حتى اكتمل السلام بدراً في سماء الوطن؛ لم يسلموا لعدو عريناً ولم يتركوا لصائل شبراً؛ كانوا أشداء في طاعة ولي الأمر مثل شدتهم في أداء واجب النفرة والطيران في الهيعة؛ التزموا بالسلام وحرسوه وصبروا عليه لأنهم منضبطون ملتزمون؛ وسحبوا فانسحبوا وألزموا فالتزموا ولم يطأ الآخرون مرابع التضحيات والبطولات إلا باتفاق الرجال وكانت تلك الديار قبلها حراماً على من نعرف وتعرفون.
إن القوات المسلحة ودود ولود؛ أم الشهداء؛ مصنع الرجال وعرين الأبطال؛ كل فوج منها يخرج يسلم الراية لفوج يخرج نوره من مشكاة زيتها الدماء والعرق؛ فوج إثر فوج جديد؛ يتبادل شفرة العز ويستنير بهدي كاريزما سودانية خالصة لأجناد تنتقل بينهم جينات الوفاء والبر الوطني؛ يمضي الصاعدون في دروب المسيرة وهم أكثر يقيناً وحرصاً على الأمانة، ويمضي من يغادر بذات العزم لا يتخطى الرقاب أو يتنكب الطريق؛ فكأنما المرء منهم ولد ليحيا في أسوار مؤسسة لا تغادرها أفئدة رجال الوطن عندهم أولاً وأخيراً ووسطاً ليكتمل عندهم السودان وطناً صحيحاً صريحاً .. جهيراً.

كل عام ولتواريخ مضت تخرج هذه القائمة ؛ يمضي أصحابها في طرقات المدائن؛ يحفظون التاريخ ويحفظهم؛ يضربون في أرض الرزق الحلال؛ بقناعة رصينة لا تخرج البتة بأحدهم إلى معسكر عدو؛ كم من قائد سابق وبطل خرج للحياة المدنية فما ازداد إلا عزاً بالجيش وتمسكاً به؛ لم يحمل أحد قط بندقية ضد وطنه؛ أو يهز رايته القديمة؛ لم يفش أحدهم سراً أو يعرض فصلاً حتى ولو عن حدث مشاع للرواة؛ كانوا الأبطال وصناع الحدث لكنهم لزموا الصمت في كثير من أمور ووقائع سواء كانت هنا وهناك، رغم أنه في الوقت عينه يصعد عشرات الأدعياء وسارقي الثورات والانتصارات !

جزى الله كل ضباط القوات المسلحة بالأمس المنصرفين بالأمس مغادرين (ميدان التمام) وأعان الله المتأهلين خطوة للأمام، وأبقى الله القوات المسلحة الباسلة غصة في حلوق أعدائنا لا تزول وجعلها فوق هامات السودانيين معلم فخار وهيبة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية