ولئن شكرتم
كثير من أصدقاء أجانب ومعارف التقيتهم في الجوار والحياة العامة والمناسبات يجمعون على أن السودانيين عسر حالهم أم استقر فإنهم في نعمة كبيرة؛ عرب وأفارقة وبعض فرنجة يذكرون لي دوماً أنهم يجدون في الخرطوم أمناً ودعة وسلاماً يهدي روعات الأنفس. وأذكر أني أقللت أخاً سورياً وزوجته وطفلهما المريض وكانوا يقصدون أحد المستشفيات، فحدثوني بامتنان عن وافر احترام يحظون به وعظيم تقدير؛ الرجل الذي اختار لسكناه حياً بشرق النيل قال إنه لم يكن يعرف أن السودان بهذا التطور والنمو وخامة الإنسان الأصيل حتى رمت به مقادير الزمان إلينا، فاندملت جراحات نفسه وسكن إلى توادد السمر الأوفياء. قال لي وهو يطالع حركة السير على الطريق نعبره إن نعمة هذه الحياة الهانئة وتمتعكم بطيب الأمسيات والنهارات وتمضون أحراراً آمنون في سربكم فضل من الله لا تهدروه معشر السوادنة أو كما قال.
مثله ومثل قوله سمعت ورأيت الغبطة من إخوة ليبيين وعراقيين؛ من أهل الصومال وارتريا التي أعلم أصدقاء فيها هاجروا ووصلوا إلى أوربا وعادوا مواطنين بهويات أوربية يقيمون بين الجريف و(باشدار)، ويقيمون إلى جوار مسجد مكاوي في أمبده الجميعاب، سألتهم ما الذي أعادكم قالوا لي البحث عن وطن دافئ؛ قلت لهم لا تشتطون قالوا لي لا ينبئك مثل خبير؛ السودان بلد يمنح أرواحنا أنفاساً تمدها بالتفاؤل. تعجبت ثم صمت فنحن قد هزت ثقتنا في أنفسنا بقدر صار المرء فيه يخاف أن يحدث بما يسمع ويرى مخافة أن تتهم في ذمتك وإن صدق بيانك وموقفك.
يومياً ورغم ضيق الحال الاقتصادي وتجاذبات المواقف السياسية أرى الشارع والمواطن البسيط يسجل نقاطاً لصالح الشرف والنباهة؛ حالة من التكافل الجميل تحسها بين الجميع؛ علامات من روح الأثرة تشخص أمامك في أمثلة كثيرة؛ عد مستشفى أو انقطع في أواخر الليل أو تحت قائظ شمس النهار؛ تجد العون والإكرام والسند؛ رغم كل شيء تمضي الحياة للأمام؛ يكد العاملون وتملأ الطموحات أشرعة الناس؛ حالة مسكوت عنها بحسن الظن بالله تجعل مقادير هذا الشعب دوماً إلى فرج، ولهذا ما انفككت عن القول حين يعرض أحدهم بأن الاقتصاد خرب وأن شلالات الدماء قادمة أجد نفسي ملتزماً بيقين معاكس بأن آمرنا إلى خير؛ لا أقايس هذا وأركن إليه بتحليل من سياسي أو صاحب منبر؛ أقيس أمري بواقع المشي بين الناس؛ نصاب بالعسرة ونغضب ونتخاصم لكننا سنبقى ويبقى هذا البلد لأنه مصان بعرفانيات وإيمان الأتقياء الأخفياء؛ عوام من الناس وغمارهم يمنحون هذا البلد حسن الطالع والمستقبل وسيبرهم الله لأنه يحسن لمن أحسن ويزيد.
نعم إن حالنا في ضيق؛ لا ينكر أحد ذلك ولكني أقول جهراً رغم هذا فنحن أحوال أفضل مما سبق؛ في كثير ونواحي متعددة هناك تطور وتصاعد؛ اتسعت سقوفات الأمن والطمأنينة العامة؛ توسعت نطاقات الخدمات في أكثر من صعيد وتحسنت؛ نمو حجم الاستهلاك وإن كان مؤشراً سلوكياً خاطئاً لكنه بالوقت عينه إشارة إلى يسار ما وسع مظان الاحتياجات؛ تقدمنا كثيراً وتغيرت ظروف عريضة للأفضل؛ هذه حقائق يجب أن تورد وتذكر؛ لماذا لا يتم النظر بمستوى التميز الذي طال خدمات مثل الكهرباء والمياه والتي يعتبر شحها أو خللها الفني أحياناً لا شيء يذكر بانعدام كامل في عهود سبقت. وأقول وأنا مسئول عن هذا أن جودة خدمات الكهرباء بالخرطوم وبعض المدن أفضل منها بعواصم مجاورة، وأن حجم تأمين المواطن والأجنبي لنفسه أفضل كذلك من عواصم أخرى ينصح الزائر لها بالتجوال رفقة حرس شخصي يقدمون خدماتهم عند أبواب الفنادق !
حتى في الإعلام نحن نتطور ممارسة وواقعاً بخطوات أوسع مما سبق؛ من يقرأ صحف الخرطوم يظن أحياناً أن بها حكومة لا يهابها الإعلام؛ هذا مثال لافت في المنطقة الأفريقية والعربية؛ حتى في الإعلام الجديد والمدونات ووسائط التواصل الاجتماعي فسقوفات النقد بل والاستهزاء مفتوحة وتطال كامل السلطة مؤسسات وأشخاص، وهذا لا يتكرر إلا هنا في السودان والذي حتى الآن لم يسجن مدوناً أو يسجن صاحب تغريدة وحتى البلاغات المقيدة في نيابة المعلومات قيدت من أشخاص ضد أشخاص؛ ثرثرات واتس ونميمة فيس؛ ولكن الحكومة كحكومة لم تكسر حساباً أو تزهق حرف مدون.