سلعة الأزمات.. آخر الكي ارتفاع الأسعار
عقب توجيه تحرير الغاز
تقرير – نجدة بشارة
همسات وتلميحات كانت تصدر من داخل الغرف المغلقة حيناً من الزمن تنذر بقرارات وتوقعات قيد الانفجار بتحرير سلعة الغاز، بعد أن استعصى على المسؤولين إيجاد حلول ممكنة لها عقب أزمتها الأخيرة، لكن سرعان ما خرجت هذه القرارات إلى الهواء الطلق بإصدار رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” قراراً بالسماح للقطاع الخاص باستيراد سلعة الغاز لفك الأزمة التي قاربت شهرها الرابع، وفي الأثناء أعلنت لجنة الطاقة والتعدين بالبرلمان عن اتجاه قوي لتحرير سلعة الغاز تدريجياً خلال الفترة المقبلة، كاشفة عن اتجاه لتكوين لجنة من وزارتي المالية والنفط والشركات، لتحديد سعر بيع الأسطوانة من القطاع الخاص للمستهلك، هذا القرار سبق وأن سبقه تكهن خبراء في السابق باتجاه الدولة إلى رفع يدها من سلعة الغاز عقب استنفاذها لكل الحلول المتوفرة لديها، وعقب الأزمة الطاحنة مؤخراً والمخاوف التي ما زالت تطارد المواطنين.
وكانت البداية التي قصمت ظهر السلعة عندما ألقى وزير النفط د.”محمد زايد عوض” باللائمة على وكلاء توزيع الغاز وحملهم مسؤولية الأزمة التي شهدتها البلاد وقتها معللاً بعدم وجود ضوابط تحكم الوكلاء، مما أدى إلى خلق الأزمة، وانتحى الوزير إلى جانب الشركات وأوكلها مهمة توزيع الغاز عبر الطلمبات التي حددها في حدود (251) طلمبة بدلاً عن (5) آلاف وكيل حسب قوله، إلا أن الحلول التي انتهجتها الوزارة بإبعاد الوكلاء لم تسجل هدفاً في مرماها، إذ سرعان ما عادت الأزمة أشد ضراوة من ذي قبل حتى وصل سعر الأسطوانة إلى (80) جنيهاً مقارنة بـ(25) جنيهاً للسعر الرسمي، هذا خلافاً للصفوف الطويلة التي شوهت صورة العاصمة الحضارية ردحاً من الزمن.
الشيء الذي قوى موقف الوكلاء وأصدروا حينها مذكرة شديدة اللهجة وشنوا هجوماً لاذعاً على مقترح فكرة مؤسسة النفط لتوزيع الغاز عبر الميادين والطلمبات، وقال الأمين العام لاتحاد وكلاء الغاز سابقاً “الصادق الطيّب” إن الوزارة فشلت وسربت الكثير من الغاز بصورة غير منتظمة في بعض المواقع مما شكل معاناة مستمرة لدى المواطن، وأضاف بأن الوزارة تزيد الأزمة بعدم وجود رقابة بصورة محكمة كما كانت من قبل، الشيء الذي خلق الاحتكار والتخزين وعمت الفوضى في التعامل مع السلطة، هذا بجانب غياب الرقابة في عملية التوزيع، متوقعين حدوث فوضى وندرة.
وأكدوا أن محلية “الخرطوم” التي كانت تمتلك أكثر مت (6) آلاف محل لتوزيع الغاز سابقاً، حصرت التوزيع عبر (17) موقعاً فقط بالميادين على مستوى الولاية، مؤكدين أن عدد الشركات العاملة في مجال توزيع الغاز (10) شركات تعمل منها الآن (4-5) شركات، والبقية توقفت بسبب صيانة المصفاة.
وبعد أن فقد المواطن خيطاً من الأمل في وفرة الغاز مجدداً، خرجت الوزارة من بياتها وأصدرت بياناً خجولاً وتصريحاً مقتضباً بعد أن حاصرتها أسئلة المواطنين عن حقيقة أبعاد الأزمة وإمكانية حلها جذرياً، ونسبت الوزارة الأزمة إلى أعمال الصيانة التي كانت تجري بمصفاة الجيلي التي تجرى دورياً، وقال إن المصفاة تغطي حوالي (80%) من الاستهلاك المحلي من الغاز، وذكر أن المصفاة تشهد أكبر عملية صيانة منذ (15) عاماً تشمل تغييراً كاملاً لأجهزة التكرير والتشغيل بجميع وحدات المصفاة الرئيس التي تنتج (47%) من الطاقة الكلية للمصفاة بغرض رفع طاقة المصفاة إلى (56%) وبزيادة تبلغ (20%).
ورغم التبرير الرسمي لهذه الأزمة بأنه يمكن قصرها في توقف المصفاة وبالتالي نشوء الأزمة، الشيء الذي قذف بالطمأنينة في قلب المواطن المهلوع من استمرار الأزمة، فصمت الوزارة فترة لم يخفِ الأزمة التي لم تكن معنية فقط بالصيانة أو استبعاد الوكلاء بقدر ما هي أزمة تشخيص واستعصاء الحلول على المسؤولين حتى لجأت الحكومة مؤخراً تجر معها تأييد البرلمان بتحرير السلعة، أو الأصح بزيادة أسعار الغاز، كاشفة عن دراسة تعكف عليها شركات القطاع الخاص والحكومة على السواء، بالكيفية المثلى لزيادة أسعار الغاز.
وترك البرلمان الحبل على القارب لأصحاب الشركات لتضع السعر، تقول رئيسة لجنة الطاقة والتعدين بالبرلمان.. د.”حياة الماحي” في تصريحات صحفية (نحن لا نسعر ناس الشركات مخيرين في وضع التسعيرة)، وقالت إن الأسعار العالمية هي التي تحكم القطاع الخاص، ولخصت “حياة” قرار البرلمان في أن المشكلة أصبحت في كيفية الموازنة بين الكميات المستوردة مع الأسعار المحلية التي ترضي القطاع الخاص، وذهبت بقولها نستطيع أن نلزم الدولة بسعر، ولكن عندما يدخل القطاع الخاص يأتي كبائع يسعى لتحقيق الربح، بينما الدولة لا تسعى لتحقيق ربحية حيث تباع أسطوانة الغاز بدولار ونصف، وكشفت “الماحي” طلباً تقدمت به لجنتها لوزارة النفط لمعرفة السعر الحقيقي للأسطوانة منذ خروجها من مصفاة الجيلي، وقالت الوزارة لم تمنحنا الإجابة، وأتبعت حتى الشركات رفضت أن تمنحنا السعر الرسمي الذي تبيع به الأسطوانة، وأضافت نحتاج لإغراق السوق بالغاز (عشان نطلع من هلع المواطن ولو في شيء مدسوس يطلع).
في الأثناء كشف خبراء لـ(المجهر) أن الأزمة الأخيرة ليست سوى خطوة مدروسة وبداية غير متوقعة من قبل الجهات المسؤولة لإطلاق يدها عن سلعة الغاز وتحريرها نهائياً وترك الغاز بأزماته للقطاع الخاص.
فيما يرى القطاع الخاص عبر حديث عضو البرلمان وممثل الشركات “علي أبرسي”، ضرورة دعم الحكومة للغاز لضمان وصوله للمواطنين بأسعار مناسبة وفي حدود إمكاناتهم، وقال (حتى لا تكون السلعة شاطحة) وسعرها عالٍ ويستمر الشح مع ذلك.
وعلل “أبرسي” طلب التحرير بأن المواطن البسيط يستفيد فقط من (10) آلاف طن من جملة (60) ألف طن غاز مدعوم، فيما تذهب الكمية المتبقية إلى السفارات والقطاعات الخاصة وميسوري الحال بواقع دولار ونصف للأسطوانة.
ومن المتابعات يتضح أن البلاد تستهلك (2500) طن يومياً وحوالي (60-70) ألف طن شهرياً، فيما تنتج مصفاة الجيلي (30) ألف طن، مما يستوجب استيراد حوالي (40) ألف طن شهرياً ليكفي حاجة البلاد من الاستهلاك بمبلغ (20) مليون دولار تقريباً.
ويرى “أبرسي” أن الحكومة قد تخسر حوالي (16) مليون دولار شهرياً في حال استمرارها في استيراد الغاز، وتوقع أن تصبح الأسطوانة بواقع (75-80) جنيهاً عقب التحرير، في الأثناء رحب اتحاد أصحاب العمل بالخطوة وعدوها بداية للوفرة وانخفاض الأسعار.
وكشف رئيس غرفة المستوردين باتحاد أصحاب العمل “سمير أحمد قاسم” لـ(المجهر) عن مطالبتهم للحكومة بتحرير استيراد سلعتي الغاز والدواء، بالإضافة إلى جميع المحروقات مثلما حدث مسبقاً لسلعة السكر التي اعتبر أن تحريرها ساهم في وفرتها وانخفاض أسعارها، وقال إن انخفاض أسعار النفط والغاز عالمياً يساعد على انخفاض سعرها بالداخل في حال تم تحريرها.
وقلل من إمكانية ارتفاع السعر بالداخل وقال إن السعر يتماشى مع استقرار سعر الصرف، وأضاف سعر الصرف يدعم بالإنتاج والإنتاجية وحري بالدولة دعم مشاريع البنى التحتية، واستبعد “أحمد قاسم” أن يؤثر تحرير الغاز على المواطن، وقال الندرة ترفع الأسعار وتشجع التهريب، وأضاف كدولة نامية اعتمادنا على الضرائب والجمارك يجعل من الندرة مدخلاً للغلاء بخلاف الوفرة التي تقضي على الغلاء.
من جانبه يرى الخبير الاقتصادي د.”بابكر التوم” في حديثه لـ(المجهر) أن التحرير يحقق الوفرة، وقال إن تحرير الغاز سيوفر الغاز بأسعار مناسبة خاصة وأن المنتج المحلي محدود والدولة تحتاج إلى استيراد، ولا بد من مراعاة تكلفة الاستيراد وبالتالي تحرير الغاز، وقال إن التحرير شيء واقعي ومطلوب في هذه المرحلة نسبة لندرة الغاز واستمرار أزمته لفترة من الزمن، وقال إن سعر أسطوانة الغاز بالولايات وصل إلى (120) جنيهاً وإن تحريرها سيؤدي إلى انخفاض سعرها إلى (50) جنيهاً في حال الوفرة.
في ذات الوقت يرى خبراء أن إطلاق ذات اليد للشركات سيخلق تبايناً في السلعة من حيث الوزن والجودة بالإضافة إلى تدخل عامل الترحيل والرسوم والجبايات التي قد تخلق سعراً مضاعفاً لسعر الأسطوانة في حال بقائها تحت إشراف وزارة النفط، وقطع الخبير الاقتصادي بروف “عصام الدين بوب” في حديثه لـ(المجهر) بتأثر تحرير سلعة الغاز على ارتفاع أسعار الغاز وبالتالي التأثير المباشر على سلع أخرى مرتبطة بالغاز، كالمصانع والمخابز، الشيء الذي ينذر بارتفاع مستويات التضخم، واعتبر “بوب” أن تحرير الغاز خطوة قد يتبعها تحرير الأدوية والمواد البترولية مما سيدخل الاقتصاد في حالة فوضى كاملة، ويرى أن خروج الدولة من الدعم المباشر لبعض السلع الإستراتيجية سيعقد الموقف الاقتصادي، ويرى أن الحديث عن التحرير ليس سوى تمكين، وقال إنه خطوة تتخذها الحكومة لتمكين شركات معينة دون أخرى والسماح لها باستيراد الغاز، وأضاف الشيء الذي سيخلق أثراً سلبياً على الاقتصاد ككل.
ومع تباين المواقف بين قبول فكرة تحرير سلعة الغاز وإمكانية إحداث وفرة، تظن شريحة أخرى أن التحرير هو القشة التي ستقصم ظهر الغاز، وأن الطريق سيصبح ممهداً للعودة إلى الفحم والحطب، رغم الغلاء الذي يصاحبهما وأن التنافس سيدخل المواطن في معاناة جديدة نسبة لاحتمال خروج بعض الشركات من السوق ودخول أخرى بأسطوانات جديدة وأسعار حسب رغبات المستوردين.