الوجه الحقيقي لانتقال الخدمات الصحية للأطراف
(بشائر).. حكاية مستشفى يختنق بالبؤس .. وغرف عمليات برائحة الموت
* نقص في خدمات ومعينات العمل الأساسية وعنابر هجرها المرضي خوفا على حياتهم
* جراحة العظام تنتهي مهمتها بإسعاف المريض ،لحين تحويله إلى مستشفى آخر
* المرضى هجروا المستشفى، واصبحوا ينتقلون مع الاخصاصيين اينما انتقلوا !
* ارتفاع رسوم استخراج (فايل) المريض من (40) إلى (79) جنيهاً
* فرض رسوم على الولادة، يدفع بأمهات للعودة لولادة الحبل …!
ممرض يطالب مرافق مريض، استعان به، بإيصال الدرب وأنبوبة الغاز لمريضها
* مريضة تشكو قذارة الفرش، الذي لا يحترم آدميتها ، بعد منعها من جلب مفارش خاصة
* في غرفة الولادة.. جهاز تعقيم مربوط بقماش.. ومقصات (ميتة).. وانعدام ميزان للطفل والضغط
تحقيق – هبة محمود
أكثر من ساعتين ونصف تجوال داخل مستشفى (بشائر التعليمي)، بمنطقة “مايو” جنوب الخرطوم، كانت كفيلة بكشف الوضع الذي يعانيه المستشفى، من تردٍ في الخدمات ونقص في معينات العمل، علماً بأن “بشائر” يعد أحد المستشفيات الطرفية، التي أعدت لتخفيف الضغط على مستشفى الخرطوم، وبديله، بعد تجفيفه تماماً.
لم تشفع جمالية مبنى المستشفى، في استقطاب أكبر عدد من مرضى المناطق المحيطة والمجاورة له، في ظل وضع أقل ما يوصف بأنه (مخيف)، نقص في خدمات ومعينات العمل الأساسية، غرفة ولادة أشبه بغرف الأموات، وعنابر هجرها المرضى خوفاً على أنفسهم، كل ذلك تجدونه في سياق التحقيق التالي.
تحرسها القطط
على غير ما هو مألوف ومعهود في المستشفيات من زحام تضج به، يلفت انتباهك ذلك الهدوء الذي يسود الباحة الرئيسية للمستشفى إلا من عدد قليل من المرافقين والمرضى، وخاصة عنابر الجراحة في الجانب الجنوبي من المستشفى، الأمر الذي أرجعته إحدى الممرضات اللاتي يعملن بقسم الجراحة إلى التغيير الكثير بين اختصاصيي الجراحة، واستبدالهم بآخرين، مما يضطر المرضى إلى الذهاب معهم أينما انتقلوا.
تقول محدثتنا: حتى وقت قريب كان المستشفى يضج بالحيوية والنشاط، لكن في الوقت الراهن ، هو خاوٍ على عروشه ، فقط تجوبه (القطط) …وتحرسه !.
سلحفائية المعامل
أحد الأطباء العموميين بقسم الجراحة لفت في حديثه لـ(المجهر) إلى أن المستشفى يعتبر أشبه بمنطقة الشدة لكثرة الحوادث والإصابات ،التي تصل إليه، مشيراً إلى أن أغلب العمليات الجراحية تجرى داخل المستشفى، بخلاف جراحة العظام ،حيث انهم يقومون بإسعاف المريض فقط، لحين تحويله إلى مستشفى آخر. وذلك لعدم توفر الإمكانات الطبية المتعلقة بجراحة العظام.
وبعيداً عن عنابر الجراحة، فإن أكثر ما يلفت انتباهك هو تكدس المرضى، والتفافهم حول المعمل في انتظار نتائجهم وفحوصاتهم، التي يتم استخرجها بصورة سلحفائية ، أثارت سخط واستياء معظم المرضى، وبحسب بعض المرافقات ،اللائي التقتهن (المجهر)، فإنهن ظللن مرابطات في انتظار نتيجة فحص مريضهن منذ السابعة صباحاً وحتى الثانية مساء، ولم يستلمنها بعد، معبرات عن استيائهن، من الطريقة التي يتم التعامل بها من قبل العاملين بالمعمل.
تمريض المرافقين
حركة دؤوبة تلحظها بمجرد أن تطأ قدماك عنابر الأطفال ، في الطابق الأول، الذي يضم ستة منها، يسكن نصفها الفراغ تقريباً، بعد أن خلت تماماً من أي مريض، ورغم تلك الحركة في العنابر ، إلا أن النقص في الخدمات هو قاسم المرضي المشترك، ولكم أن تتخيلوا أن تذهب أسرة طفل مريض للممرض، لإيصال (الدرب)، فيطلب منها إيصاله لوحده، وكذلك أنبوبة الأوكسجين!
ألقمتنا والدة الطفل حجراً، وهي تسرد لنا تلك الطريقة التي تم التعامل بها معها من قبل الممرض، حين طلبت منه الحضور لرؤية الدرب الذي تعطل فجأة، فأجابها قائلاً:(صلحوا براكم)!، تقول “ماريا تيا”: أكملنا يومنا الرابع منذ دخولنا للمستشفى بسبب الالتهاب الذي يعاني منه ابني، ورغم ذلك نعاني من سوء الخدمات، وغلاء الدواء ،على الرغم من أن الدولة كثيراً ما نادت بمجانية العلاج للأطفال من عمر يوم إلى عمر خمس سنوات ولكن، حتى الآن فان جميع الأدوية نقوم بشرائها على نفقتنا الخاصة.
يتنافى مع الآدمية
“إخلاص موسى”، سيدة ثلاثينية تشارك “ماريا تيا” ذات العنبر، بدت أكثر انزعاجاً في حديثها، وهي تشكو حالة تردي الخدمات في المستشفى بجانب غلاء الدواء. تقول “إخلاص”: طفلي عمره “44” يوماً ،يعاني من التهاب صدري، وحتى الآن لم نشاهد ما يسمى بالعلاج المجاني للأطفال، دون عمر الخامسة، بخلاف الذي تلقيناه في اليوم الأول ، عند دخولنا عنبر الحوادث. وباستفسارنا من الطبيبة المسؤولة عن مجانية العلاج طلبت منا الذهاب لصيدلية الطوارئ بالمستشفى، لنفاجأ عند ذهابنا بعدم وجود الدواء، أصلاً.
بالقرب من “إخلاص” ،كانت تجلس “ليلى محمد” ، ترافق ابنها المريض، فهي بالإضافة لشكواها من تردي الخدمات، بدت أكثر انزعاجاً من مستوى النظافة داخل العنبر، وخاصة (المفارش) و(الملايات) المتسخة، الأمر الذي اعتبرته مقززاً ، ويزيد من الاصابة بالأمراض، بجانب أنه يتنافى مع آدمية الإنسان، كما أنها لفتت إلى منعهم من قبل إدارة المستشفى من جلب مفارش لأسِرتهم.
افتقار لأبسط المقومات
على دفتر الملاحظات كانت جميع العنابر داخل المستشفى ، تفتقر إلى (دواليب) أو (كومدين) صغير تضع بداخلها أسر المرضى مستلزماتها، وما لاحظته (المجهر) هو أن معظم المرافقين لمرضاهم يخزنون حاجياتهم بمجهودات شخصية، فيما اضطر أغلبهم لوضعها على الأرض، وهو أمر أرجعته ممرضة بقسم الأطفال ، إلى افتقار المستشفى لأبسط الإمكانيات، في ظل نقص في (ترابيز) كشف المرضى، وشح في عدد الملايات، التي وصفتها بالرديئة.
محدثتنا أكدت لـ(المجهر) جاهزية المستشفى من جميع الأقسام، ووصفت الكادر الطبي الموجود بالمميز، وبسؤالنا عن قلة الإقبال من المواطنين للمستشفى وخاصة قسم الجراحة، قالت: قد يكون بسبب الظروف الاقتصادية ،التي يعاني منها الجميع، خاصة أن استخراج (فايل) للمريض أصبح بمبلغ (79) جنيهاً بعد أن كان سعره أكثر من (40) جنيهاً، وأضافت: الآن جميع العمليات الجراحية ،سواء أكانت صغيرة أو متوسطة أو كبيرة، بالإضافة إلى عمليات الولادة ، بشقيها (طبيعي ـ قيصري) أصبحت برسوم مالية، بعد أن كانت تجري مجاناً، قبل شهر من الآن.
غرفة ولادة غير مكتملة
برفقة أحد مصادرنا داخل المستشفى، استطعنا الدخول لـ(قسم الولادة) وتحديداً غرفة العملية نفسها، فكنا كما الذي ذهب ليصطاد فأراً فإذا به يصطاد فيلاً، في ظل غرفة تفتقر لأبسط مقومات تليق بها، بأن تكون على درجة عالية من الجاهزية تفادياً لحدوث أي طارئ للأم أو لجنينها، فقد صبت واحدة من الممرضات جام غضبها ، وهي تقوم بإجراء عملية ولادة طبيعية، شهدتها الصحيفة، على ذلك الوضع الذي يعاني منه القسم، مشيرة إلى أنهم كثيراً ما طالبوا بضرورة مدهم بما يحتاجون إليه من معينات عمل، لكن دون جدوى تذكر، وقالت: إننا بحاجة لجهاز تعقيم، فكما ترين الحالة التي آل إليها جهاز التعقيم الحالي، بعد أن صرنا نقوم بربطه بقطعة قماش، إضافة إلى أننا نعمل بأربعة مقصات فقط و(ميتة) ، ناهيك عن عدم وجود ميزان طفل وميزان ضغط، وأضافت : في كل مرة يأتي وفد من (وزارة الصحة) يقوم بكتابة احتياجاتنا، لكنه يذهب أدراج الرياح، في ظل وعود متكررة منهم.
قلق من إلغاء مجانية العلاج
لم تتوقف مطالب الممرضات، حد ما أشرنا إليه أعلاه، سيما أن الوضع داخل الغرفة ليس بحاجة لكثير وصف، في ظل (تربيزة) ولادة عفا عليها الدهر، و(لمبة بيان) معطوبة، وهي لمبة تستخدم لإضاءة الرحم حال حدوث مشكلة أو نزيف به، بالإضافة لـ(أحواض كلوية) صدئة، وهي الأحواض ،التي يتم وضع معدات العمليات الجراحية عليها، وهذه الأحواض ،حسبما ذكرت محدثتنا ، يتم تعقيمها، بـ(ليف السلك)!!. ولكم أن تتخيلوا معي، غرفة بهذه المواصفات تستقبل الأجنة، والقائمات على أمرها يطالبن بأبسط الأشياء، أحواض بلاستيكية، ومرايل جلد وقماش، والمزيد …المزيد.
بالمقابل، عبرت واحدة من المسؤولات عن قلقها حيال إلغاء مجانية عمليات الولادة، بالمستشفيات الحكومية وعودة ما أسمته بولادة الحبل، ولفتت إلى إحضار ثلاث حالات نزيف للمستشفى في الفترة الماضية عقب محاولة الأمهات الثلاث توليد أنفسهن بالموس، وولادة الحبل، وقالت بسؤالنا لهن عن فعلتهن تلك أكدن عجزهن عن توفير مبلغ الولادة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فداخل غرفة الحضانات، اشتكى الواقفون على أمرها من عدم وجود عامل نظافة مخصص للقسم الذي لا يتم تنظيفه بصورة يومية، كما عبروا عن استيائهم من الكثير من (بلكات) الكهرباء، التي بحاجة للتغيير والصيانة.
نقص في المعينات
عقب خروجنا من قسم الولادة، تولدت بأذهاننا الكثير من الأسئلة حول الأوضاع التي يعاني منها القطاع الصحي بالسودان، والمشاكل التي تعتريه، فهل يمكن لمستشفى كـ(بشائر) يفتقد لأبسط الإمكانيات ناهيك عن مظهره الخارجي الجميل، أن يكون بديلاً لمستشفى الخرطوم ويخفف الضغط عن وسط العاصمة؟ عن أي تخفيف وتجفيف يتحدث القائمون على أمر الصحة ومستشفيات تفتقر للإمكانيات؟
وتماهياً مع الآية الكريمة (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا)، فقد شهد شاهد من أهل المستشفى أن الوضع مقارنة مع مستشفى الخرطوم، أشبه بشفخانة في قرية، بحد وصف أحد اختصاصيي التمريض والعمليات الصغيرة بالمستشفى، وهو يتحدث لـ(المجهر) عن الأوضاع التي تعانيها المستشفى من تدهور في الخدمات الأساسية، يقول محدثنا: المستشفى من ناحية المبنى يعد جميلاً، لكن داخله يعج بالكثير من المشاكل، بجانب نقص في معينات العمل بالإضافة لأطباء الامتياز الموجودين بكثرة وأغلبهم أجانب من الدول الأخرى.