حديث التطبيع
يبدو لي أن سعي البعض لإحداث حالة من الإثارة و(الآكشن) في المشهد السياسي والإعلامي، يحملهم على تخيل حدث حتى إن لم يكن ماثلاً في المخيلة الشعبية والرسمية؛ وأقرب الأمثلة لذاك التجاذب المتواصل لأمر التطبيع وإسرائيل وهو أمر يبقى في كل الأحوال وحتى المنقول عنه الآن أكبر من حجمه الحقيقي والواقعي، فأمر المقاطعة والقطيعة بالنسبة للسودان أمر قديم وعبارة صالح لكل الأقطار عدا إسرائيل المنحوتة في وثائق السفر السودانية أمرها قديم قبل الإنقاذ وبعدها ستبقى.
كل القوى السياسية من أقصى اليمين لليسار مروراً بالوسط وانتهاء بالقوى الحديثة والمستحدثة تلتقي تقريباً في نقطة رفض إسرائيل؛ حادث هذا عند البعث وقوى التجمع وحتماً عند الاتحاديين بالفصائل كافة، مروراً بحزب الأمة الذي كاد بعض وجهائه يقاضون بعض منشورات تحدثت عن مصافحة بين الإمام “الصادق” وقائد إسرائيلي رفيع في ملتقى بحثي وعلمي! ويمتد الأمر لغير قليل من القوى السياسية بما فيها وعلى رأسها المؤتمر الوطني الذي بعض فواتير الحصار والاستهداف له ولحكمه مردها الموقف القوي لحكومة الحزب في دعم القضية الفلسطينية التي جعلت الطيران اليهودي يقصف بعض الأراضي السودانية جراء تخيلات من تلك المواقف المؤيدة للحق الفلسطيني.
الأسبوع الماضي حدث نقل خاطئ ليس في حديث البروف “غندور” وزير الخارجية التي (أكشنت) الصحف حديثاً أثبت أكثر من شاهد أنه لم يكن كما نقل وروي عنه، فإذا بإحدى لجان الحوار الوطني المعنية بالعمل الخارجي تزعم أن من بين (41) مداخلة حول موضوع التطبيع كانت هناك أربعة آراء مؤيدة أو داعية لعلاقة ما مع بلد العدو؛ ولست أعلم أي قياس لأن معنى الحديث أن نحو (كذا) وثلاثين لم يدعموا رؤية الأربعة لكنه قياس الإثارة واختلاق الغبار وتسخين الأجواء على وزن مصرع ومقتل ستين في حادث سير بينما يكون المتوفى شخص أو شخصين!
صحيح أن هناك أشخاصاً يرون أن التواصل مع إسرائيل مفيد لانفتاح علاقات السودان الخارجية لكنه يظل رأي أفراد وآحاد لا يمكن وصفه بالرأي الغالب أو المرجح ليكون هو ما تؤسس عليه الدولة موقفاً وقراراً، وأصحاب هذه الرؤية مخطئون لأن إسرائيل لم تُقل عثرة دول صديقة لها في أفريقيا.. إسرائيل لم تجترح معجزة في جنوب السودان ولم تفعل شيئاً لدول أخرى تعاني الفقر والحروب، وهي لم تفعل لتلك سوى وصمة إضاعة الحق الفلسطيني الذي لم يعد يملك دولة وحق عودة، بل يملك فقط الموت والتقتيل وحملات الإغارات الجوية والرصاص المصبوب.
إسرائيل دولة متطرفة؛ أمر المسلمين معها أمر دين ونص قرآني والموقف الرافض لها له أسبابه ومسوغاته القانونية كبلد مغتصب وضار بجيرانه ولا يتبجح أحد بديمقراطية أو مساواة.. أية مساواة تلك والفلاشا اليهود مواطنون درجة ثالثة وعرب إسرائيل لا حق لهم إلا العيش تحت بند الأغراب، والمسجد الأقصى تمنع فيه الصلاة لمن دون الأربعين ومرات الخمسين فلا داعي إذن لشكر خريفة الصهيونية في خريف هذه الآراء المتملقة.
إسرائيل بلد شيطاني النشأة والمنشأ؛ وأكرم للسودانيين الموت محاصرة ومؤامرة من الانخراط في ذيل كيان قتل علماء الأمة ورموز جهادهم بالقصف والتصفية والاغتيال؛ أكرم للسودان أن يحشر في صف “أحمد يس” و”الرنتيسي” والدرة من أن يقف تحت مظلة رضا الليكود وتلاميذ “شامير” و”رابين” وأظن أن هذا هو موقف الجميع في هذا البلد وإن روجت الصحافة لغير ذلك، ولاءات الخرطوم قائمة بالنسبة لها وصارت أربعاً بلا تطبيع.