كيف يتوقف نزيف الغارمين ،الذين تتكدس بهم السجون؟
ـــ سوق المواسير بمدينة ود مدني (يكسر) رقاب المعوزين ويغرقهم بالديون
ــ الحالة النفسية للأولاد تدفع سيدة لإخراج زوجها عبر (كمبيالة) وتوريط نفسها
ــ “الحكيم”: يجوز التعامل بالكسر، شريطة أن لا يكون به إضرار بالتجار الآخرين
ــ قانوني : والشخص الذي ينظر الناس غليه كضحية، محتال في نظر القانون
ـــ البنوك طرف في أغلب المعاملات التجارية من رهونات وتمويل وغيره
* في السوق وسيط ليس لديه (شغلة) سوى اصطياد المحتاجين وعرض خدماته عليهم
تحقيق – هبة محمود
أرادا الخروج من أزمة مالية اعترتهما، فإذا بهما يقعان ضحايا تجارة الوهم، أو (سوق المواسير)، الذي بدأ يزدهر في معظم ولايات السودان، رغم مخاوف الأجهزة الرسمية ذات الصلة، من انتشاره، عقب قضية سوق المواسير الشهيرة بمدينة “الفاشر”، والتي وصل عدد البلاغات فيها إلى (40) ألف بلاغ وربما يزيد، وها هي فصول جديدة لضحايا جدد في ولاية الجزيرة، لم يرحم أصحاب الأموال ضعفهم وحاجتهم، ليجدوا أنفسهم دون مقدمات داخل دوامة البيع بالكسر، والربا في “سوق المواسير”، الذي بدأ يتسع داخل نطاق الولاية، فكل من “ع. محمد” و”ن. عبد الرحيم”، يعيشان ظروفاً قاسية، في ظل المطاردة التي يعانيانها من قبل “الدائنين”، ورغم إقرارهما بذنبهما إلا أنهما أراداها عبر (المجهر) طرح قضيتهما للرأي العام وللدولة، كنموذج لمايجري على الارض، من ممارسات تحت ظل مايسمى بسوق المواسير ، الذي اتسع وتمدد ، رأسيا وأفقيا ، وذلك لأجل إيقاف نزيف الغارمين ،الذين تتكدس بهم السجون، لعجزهم عن إيفاء ما عليهم من مستحقات مالية ، وإرجاعها لأصحابها.
فكرة السوق
على الرغم من أن الفكرة داخل (سوق المواسير) تعتمد على البيع بالدفع الآجل، عبر إيصالات الأمانة والشيكات المؤجلة، والبيع بـ(الكسر) والربا، إلا أن ذلك لم يثن الأستاذ “ع. محمد” (موظف حكومي)، من التعامل معه، سيما أن حاجته الملحة لمبلغ (3) آلاف جنيه ،هي التي دفعته ليكتب على نفسه شيكاً بمبلغ (5) آلاف بفترة سماح شهر، ليجد نفسه، وبزيادة ألفي جنيه ، قد تعامل بالربا.
يقول “ع”: الضغوط الاقتصادية هي التي أجبرتني على ذلك، حين لم أجد من يوفر لي قيمة المبلغ، وظننت لحظة إمضائي على شيك الـ(5) آلاف جنيه ، أن الأمور سوف تسير للأفضل، وفترة السماح كفيلة بأن تجعلني أرد قيمة الشيك، دون أن أضع في اعتباري أن المبلغ يمكن أن يتضاعف ليصل (9) آلاف جنيه.
وسطاء بالجملة
وطفق محدثنا شارحاً الكيفية التي تمت عبرها (سواقته) بحد وصفه، و(جرجرته) للدخول في هذه الدوامة، والتي تمت عبر أحد الوسطاء، وقال: علمت لاحقاً أن هذا الوسيط ليس لديه (شغلة) سوى اصطياد المحتاجين وعرض خدماته عليهم، بأن يعرفهم بتجار في سوق مدني، وتحت ستار البيع بالجملة، تتم الصفقات المشبوهة، وبعد أن عرفني على أحد التجار قمت بالإمضاء على شيك الخمسة ألف جنيه، أعطوني رصيداً بقيمة 3 آلاف جنيه، للتصرف فيه، وبانتهاء فترة السماح المقررة لي وجدت نفسي عاجزاً عن السداد، لأجد نفسي، ــ والحديث ما زال لمحدثي ــ مرة أخرى أمام وسيط آخر من الذين يمتلئ بهم سوق ودمدني، وهو يعرض خدماته على بأن قام بالذهاب بي إلى أحد التجار الذي أعطاني، رصيداً بمبلغ 10 آلاف جنيه، ووقعت مضطراً على شيك بقيمة 15 ألف جنيه بفترة سماح شهر، قمت بتسديد مبلغ 5 آلاف جنيه، وعجزت أيضاً عن السداد، والآن حررت ضدي دعوى بلاغ جنائي وأمر قبض.
معاناة في سوق الوهم
عبر إجراءات سهلة وبعيداً عن البيروقراطية، ناشد محدثنا، عبر (المجهر) تدخل الدولة، لإغاثة المتعسرين والضائقين مالياً، بتسهيل الإجراءات التي تتم بواسطة وزارة الرعاية الاجتماعية، ديوان الزكاة، وخاصة الأخير الذي تجتمع لجانه مرتين لأجل النظر في شكوى المحتاج الذي ربما يفقد الكثير، لحين بت تلك اللجان بحد قوله، ومناصفة معه، شاركته المناشدة نفسها السيدة “ن. عبد الرحيم” التي تعيش ظروفاً مشابهة له، رغم أنها من منطقة “الحصاحيصا”، إلا أن قاسمهما المشترك، هو المعاناة في سوق الوهم ، وجني بلاغات بلاغات وأوامر قبض.
“ن ” التي تعمل في الأعمال الحرة، بمكتب عقارات لبيع الأراضي والسيارات، أكدت لـ(المجهر) أن سوق الكسر بلا قلب، لا يعرف الرحمة ،طالما يحوي تجاراً من البشر الذين يستغلون حوائج الناس، مشيرة إلى أن مأساتها وزوجها بدأت بـ (الكسر)، عندما استغل بعضهم حاجة زوجها لتأمين مبلغ 7 آلاف جنيه، لإجراء عملية جراحية مستعجلة لإزالة الغدة التي أصابتها، والتي لم يجد معها العلاج نفعاً.
تفاقم الدين
وتروي محدثتنا مأساتها، وتقول: عجز كلانا أنا وزوجي، من تحصيل مبلغ العملية، فما كان منه إلا إن قام عبر وسيط، بشراء بضاعة (سكر) من أحد التجار بمبلغ (10) آلاف جنيه، قام بالإمضاء على شيك بقيمة المبلغ بفترة سماح شهر فقط، وأوهمه أن فائدة البضاعة (4) آلاف جنيه. وأضافت وببيعنا للسكر حصلنا بالكاد على مبلغ العملية، بزيادة (200) جنيه، وذهبت أقواله عن الأرباح أدراج الرياح، وتضيف: بحلول وقت السداد تعذر علينا سداد المبلغ ليجد زوجي نفسه مرة أخرى أمام تاجر آخر، أخذ منه بضاعة عبارة عن رصيد بقيمة 15 مليون، وعجز مرة أخرى عن السداد، واستمرت الحكاية إلى أن أصبح مطالباً بمبلغ 109 مليون جنيه، حررت على إثرها بلاغات وأمر قبض في مواجهته، وأودع سجن (الحصاحيصا).
شيك مقابل الإفراج
استطردت “نوال” وقالت: بدخول زوجي السجن توجهت لديوان الزكاة ،وبعد تقديم جميع المستندات قام بسداد (50%) لجميع الغارمين بالولاية، وبذلك أصبح زوجي مطالباً بمبلغ (7) آلاف جنيه، ظل حبيساً على إثرها، لأجد نفسي أمام الحالة النفسية ،التي يمر بها أبنائي وتأثيرها على دراستهم ،أرضخ لمساومة التاجر صاحب المبلغ المتبقي، وهو يساومني بخروج زوجي مقابل الإمضاء على شيك بقيمة (26) ألف جنيه، بفترة سماح شهر ونصف، وتمضي قائلة: وقعت على الشيك لأعيد البسمة لأبنائي، إلا أنني وجدت نفسي عقب حلول فترة السماح، وقد تم تحرير أمر قبض في مواجهتي، والآن أتحرك وأنا ارتدي النقاب خوفاً من القبض عليّ في أية لحظة.
القرض الحسن
دعوات أطلقها فضيلة الشيخ “محمد هاشم الحكيم” مطالباً عبرها أجهزة الدولة لإحياء القرض الحسن، وتخصيص ميزانية أفضل عبر ديوان الزكاة للغارمين، ودعا عبر (المجهر) جهاز الأمن الاقتصادي للمراقبة اللصيقة للأسواق، لأن بعض التجار قد فرغوا أنفسهم لهذا العمل ،بحد وصفه، مشيراً إلى أن مردود السعي يختلف من شخص لآخر، وعلى الشخص عند إصابته ببعض الابتلاءات التحرك بطريقة ايجابية ، بدلاً عن الوقوع في الربا المباشر، الذي يدخل في حرب مع الله ورسوله، مستشهداً بالآية الكريمة (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ).
ربا النسيئة
وعن التعامل ببيع (الكسر)، فقد جوز (الحكيم) التعامل به، شريطة أن لا يكون به إضرار بالتجار الآخرين، كأن يغرق الشخص (الكاسر) السوق بالبضاعة، بثمن أقل، بغرض إخراجهم منه، لافتاً إلى أنه تحليل البيع بالكسر نسبة لخلوه من المنفعة. وقال: على أصحاب المال أن يتقوا الله في الشخص المحتاج، دون استغلال حاجته، وتمديد فترة السداد له حال عجزه ، والابتعاد عن التعامل معه بما يسمى ربا النسيئة، وهو أن يقوم التاجر بتأخير موعد السداد، وزيادة المبلغ، وهذا العمل فاعله ملعون، ومحارب من الله عز وجل.
ولأن مئات الصفقات تتم بالأسلوب الذي تعرض له كل من “ع ” و”ن ” فإنه وبحسب الأستاذ “علي” من جهاز الأمن الاقتصادي، فإنه يتعذر على الجهاز ضبط الأسواق ، فيما يتعلق بهذه النوعية من التعاملات ،لأنها تتم بين الشخص المحتاج والتاجر.
الثراء الحرام
المحامي “د. عبد الله العاقب”، قطع بعدم وجود ما يسمى بسوق “المواسير”، لافتاً إلى أنها ليست سوى تسمية مطابقة لكلمة (الكسر)، الذي امتلأت به الأسواق، وأرجع ما يحدث لضعف الذمة، التي زجت بالكثيرين داخل السجون عقب تعاملهم بالشيكات الراجعة، التي أصبحت لا تمثل ضامناً في الأسواق السودانية، وقال: الآن أصبح ضابط السوق الوحيد هو العقد الذي يعد شريعة المتعاقدين، ومن خلاله لن يكون هناك ضرر أو ضرار، لأن السوق حر ، يأتيه المواطن بكامل عقله وإرادته الصحيحة غير المشوبة بأي نوع من النواقص الأهلية.
أضاف “العاقب” قائلاً: القانون يتعامل مع الضحية والمتهمين ، وفقاً لقانون الثراء الحرام، لأن القانون لا يحمي المغفلين، والشخص الذي يتعامل معه الناس على أنه ضحية، يعد في نظر القانون محتالاً حرر شيكاً على نفسه ، وهو يعلم أنه غير قادر على تسديده، واستطرد: في هذه القضايا كلاهما سيان، الضحية والمتهم، لتعاملهما بهذه الطريقة، وذلك لضعف التعامل في السوق من حيث الضمانات، بجانب سهولة فتح الباب لدى البنوك، وتسليم الشيكات بدون مرجعية للشخص ،الذي يقوم بفتح الحساب.
مراقبة البنوك
الدكتور “عبدالله العاقب” طالب بضرورة إخراج المادة المتعلقة بـ(الشيك) من القانون الجنائي ،وإرجاعه للمعاملات المدنية، كما كان سابقاً، لتعامله مع أصل المعاملة، أي أن يكون الشيك مبلغاً مالياً مقابل معاملة تجارية بين الطرفين، محرر الشيك والتاجر، ودعا للمراقبة اللصيقة للبنوك من قبل البنك المركزي ،على أن تكون هناك حملات تفتيشية كل 3 أشهر خاصة في هذه المرحلة التي وصفها بالحساسة، التي انهارت فيها الذمة التجارية، لأن البنوك طرف في أغلب المعاملات التجارية ،من رهونات وتمويل وغيره.