الحكومة في مرمى نيران المعارضة.. ومثقفون يكشفون إيجابياته
خطاب “البشير”.. وجدلية الحوار الوطني
تقرير- محمد إبراهيم الحاج
مثلما لم يكن اللقاء الأول لبعض فرقاء السياسة السودانية في مؤتمر الحوار الوطني الذي انطلق أمس بمشاركة عدد من الأحزاب والقوى السياسية، فهو كذلك ربما لن يكون اللقاء الأخير للوصول ولو إلى حد أدنى من الاتفاق على القضايا المصيرية التي طالما أرقت مضاجع الحكومات المتعاقبة والشعب على السواء.. وتبقى الظروف المحيطة بتلك اللقاءات وجدية الأطراف وثقتها في بعضها البعض بمثابة عامل مهم يحدد إلى حد كبير جدوى لقاءات الحكومة والأطراف الأخرى.
(النوايا الحسنة) أو فلنقل (الوعود الملهمة) ليست كل شيء في عرف قوى المعارضة، فبعضها ينشد وضعاً مثالياً قبل الجلوس إلى أية طاولة لمحاورة الحكومة، بينما يمكن أن يكتفي غيرها بشروط أقل حدة، ويرى أن الحوار من الممكن أن يقود إلى فعل إيجابي يمكن من خلاله توسيع هامش الحريات والظفر ببعض المكتسبات السياسية التي لم يكن لها أن تتحقق في حال وقف كل طرف في مكانه.
خطاب رئيس الجمهورية “عمر حسن أحمد البشير”، أول أمس، في فاتحة أعمال الحوار الوطني احتوى على عدة موجهات، ضمنها إرساله تطمينات إلى الرافضين للحوار بإعلان استعداده لوقف دائم لإطلاق النار في حال صدقت نوايا الطرف الآخر، وتوجيهه بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ما لم يكونوا مطلوبين في قضايا جنائية، ووجه السلطات بفتح النشاط أمام الأحزاب السياسية، ودعا الأجهزة الإعلامية لحرية التعبير وتناول قضايا الحوار الوطني بلا قيود.
{ تطمينات غير كافية
لكن يبدو أن كل تلك التطمينات لم تكن كافية لقوى المعارضة كيما تمد جسور الثقة ولو بالتعويل الحقيقي على ما ورد في الخطاب، فقد أبلغ “يوسف حسين” المتحدث باسم الحزب الشيوعي (المجهر)، أمس، أنهم استمعوا للمرة الألف إلى هذا الحديث عن إطلاق الحريات العامة واستعداد الحكومة لوقف إطلاق النار وفتح أبواب الأحزاب لممارسة نشاطها السياسي، وأضاف: (حتى قبل شهر واحد من الآن قالت الحكومة إنه لا يوجد أي معتقل سياسي لديها فكيف تأتي الآن وتقول إنها تريد أن تطلق سراح المعتقلين السياسيين؟). وعما إذا كانت الحكومة جادة فعلاً هذه المرة بضمانات الحوار الدولية أوضح “حسين”: (نحن ما شغالين بسياسة “شختك بختك” ولن نسعى إلى انتظار شيء لن تفعله الحكومة)، مشيراً إلى أن الحكومة (دربها واضح) في ضرب الحريات العامة، وهذه هي السياسة التي تطبقها منذ (26) عاماً، ونحن قوى سياسية علينا بما يردنا منها من أعمال مكشوفة.
وقلل “حسين” من تأثير الحوار الوطني، مبيناً أن القوى السياسية الدولية الفاعلة مثل الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ليس لها علم بما يجري الآن، واصفاً إياه بـ(لعبة وداخلها غش)، وزاد: (الحكومة تريد أن تكسب بعض الوقت وتسعى إلى توسعة دائرتها الإسلامية، وأغلب المشاركين الآن في الحوار من القوى الإسلامية، وتسعى جادة إلى فك عزلتها الحالية، قاطعاً بأن هدف الحوار الأساسي هو توسيع القاعدة الإسلامية بمن فيهم “الترابي”، مؤكداً في ذات الوقت أنهم كقوى سياسية لا شأن لهم بمخرجات الحوار وسيستمرون في إقامة ندواتهم ونشاطهم السياسي.
من جهته، اقتبس “محمد ضياء الدين” المتحدث باسم حزب البعث مجتزأ من حديث البشير جاء فيه: (أجدد التوجيه للسلطات المختصة في الولايات والمحليات في مختلف أرجاء السودان بتمكين الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من ممارسة نشاطها السياسي الذي يرفد الحوار ولا ينقصه)، وقال إن معنى ذلك واضح جداً وهو أن الحرية لجماعة الحوار فقط، وأضاف إن الحديث عن إطلاق سراح المحكومين لا قيمة له لأن العادة جرت أن يتم اعتقال آخرين بعد أي إطلاق سراح لغيرهم، مبيناً أنهم طالبوا بإلغاء القوانين المقيدة للحريات العامة التي تبيح الاعتقال وتمنع العمل السياسي، على أن تلتزم الدولة ومؤسساتها الأمنية خاصة بالحريات التي يكفلها الدستور، كما أن عليها أن تسقط الأحكام الصادرة بحق المحكومين السياسيين وقادة الحركات المسلحة وإطلاق سراح الأسرى والإعلان عن فتح ممرات آمنة عاجلة لإغاثة المنكوبين جراء الحرب، وأردف بأن تجاهل الخطاب لاشتراطات المعارضة حول تهيئة المناخ للحوار يعبر عن رفض النظام وإصراره على المضي في ذات نهجه، بالإضافة إلى أنه تجاهل الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على الواقع المعيشي للمواطنين باعتبار أن هذه الأزمة تمثل أهم القضايا التي تهم المواطن السوداني، بالإضافة إلى تحقيق الأمن والسلام. وقطع “ضياء الدين” بأن الحوار مع النظام لن يقود إلا لمزيد من تأزيم الواقع السياسي في البلاد، وتحريف لطبيعة الصراع ودفعه إلى خارج أهدافه الأساسية.
وعن ما ذهب إليه متحدث الحزب الشيوعي “يوسف حسين” من أن المؤتمر الوطني يسعى إلى توسعة محيطه الإسلامي وخلق جبهة إسلامية عريضة، قال “ضياء الدين” إنهم ليسوا ضد وحدة التيار الإسلامي، لكنهم ضد الممارسات السياسية لحزب المؤتمر الوطني، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما أكد أنه يتمنى توحيد التيارات المتشابهة فكرياً لأن الأمر- حسب وجهة نظره- يساهم في تحويل الصراع السياسي اليومي إلى صراع ذي رؤى وأفكار، وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تساقط الكثير من القوى التي لا ترتبط بجذور فكرية، والتي صنعتها ظروف سياسية.
{ مناقب الحوار
رغم لهجة الرفض الواضحة لمتحدثي الشيوعي والبعث وتقليلهما من جدوى الحوار الوطني، إلا أن د. “راشد دياب” الذي شارك في المؤتمر، أول أمس، بوصفه شخصية قومية، قطع بأن الحكومة جادة هذه المرة لأنه يرتبط بمدى زمني محدد وهو ثلاثة أشهر، ولم يحدث أن حددت الحكومة قبل ذلك مدى زمنيا، وأضاف د. “راشد” في حديثه لـ(المجهر)، أمس، إن هدفهم من الحوار هو الشعب السوداني وليست لديهم مطامع سياسية، معدداً في ذات الوقت المغانم التي يمكن أن يخرج بها الحوار الوطني قائلاً إن المكسب الأكبر هو أن يكون هناك شبه إجماع كامل على وضع دستور جديد ودائم لأنه سيتم برغبة كل الأطراف المشاركة، وأردف: (لا يمكنني أن أشارك في شيء ولا أعرف المدة الزمنية له).
وأوضح د. “دياب” أن الشيء الآخر المهم هو فكرة الحوار نفسها، مبيناً أن الحوار فكرة ثقافية مرتبطة بالوعي وتتيح للشعب أن يطرح تصوراته، وزاد: (منذ عودتي للبلاد أعلنت ثورة ثقافية)، وتابع: (أعتقد أن هذه سانحة مناسبة للناس ليطرحوا رأيهم وأن تكون لدينا رؤية مستقبلية، وهمنا هو الممارسة العملية للتصور المستقبلي التي تحتاج إلى وجوه جديدة وعلماء لأنها لا تأتي بالسياسة فقط، وإنما بتربية العقل المبدع والتقدم العلمي وترسيخ القيم الاجتماعية التي تحض على السلام والتنمية والتفكير).
من جهته، عدد “عمار السجاد” رئيس تيار إسناد الحوار وعضو الأمانة العامة للحوار الوطني محاسن الحوار الوطني، وقال إنه يناقش قضايا أساسية تتعلق بالإستراتيجي منها وليس التكتيكي، وأضاف: (الحوار سينقل السودان إلى نظام الحكم الراشد ودولة القانون، ويتخلص من الدولة الشمولية والأمنية، بالإضافة إلى مناقشة قضايا الهوية والاقتصاد والحقوق والحريات والحالات الخارجية.. لكن أهم ما فيها هو قضايا الحكم)، واستبعد “السجاد” في حديثه لـ(المجهر) أن تكون الحكومة تسعى إلى كسب الوقت بإطلاقها دعوة الحوار قائلاً: (لا أعتقد أنها تحاور من أجل اللا حوار، فهي جادة جداً، وقرائن الأحوال تثبت ما ذهبت إليه).. وعن عدم مشاركة عدد من القوى السياسية المؤثرة أوضح “السجاد” أن غيابها لن ينقص من الوثيقة شيئاً رغم أنها ستنقص من المشهد، مضيفاً: (الحركات المسلحة التي جاءت تحمل ذات فكرة الحركات الأخرى، لأن القضايا هنا ليست كما قلت تكتيكية بل إستراتيجية، وستعبر عن الحركات التي لم تأت، وذات الأمر ينطبق على الأحزاب التي جاءت وستعبر كذلك عن الأخرى التي لم تأت).