الحمد لله
ليل أمس ولواجب اجتماعي عبرت الخرطوم جنوباً، وللجنوب وصف في ذاكرة المرء خليط من الشجن والبشارات، ودمع مسفوح وربما دم! عندما زرت بعض أصدقائي في (مواجبة) لا تسقط عن كاهل المرء في هذه البلاد والتي كانت وستظل متينة الوشائج وافرة الحياة بهذا التماسك العفوي في الأفراح والأتراح، عبرت (الديم) بين (الحجر) و(القنا) ولمحت في جانب الطريق طاولة الشاب “قدس” يقف بذات سمرته الجامدة وبنيته العالية ينفث النيران ويضوع الدخان راسماً ظلال الاشتهاء فوق (الأقاشي) المنصوب في ركن منزله، المكان يضج بالحياة والمارة والسابلة والمتسكعين حول أنوار ملعب ترابي غذته السلطات المحلية بالنجيل والأضواء التي أصابها الرهق، فعتمت قليلاً وإن لم تخبُ ومع هذا تحول المكان لملعب بهيج للشباب وتجمع الكبار على حواف الملعب يثرثرون بما شاءوا ورغبوا وبما لا يرغبون.
عبرت (الصحافات) في شقها الشرقي وتجاوزت فصعدت الجسر الطائر عند السوق المركزي فهبطت في مدخل (الإنقاذ)، وحاذيت (الأزهري) وشققت (مايو) وأنا أعجب لود السودانيين وتسامحهم الذي يجمع جغرافيا ثلاث حق تاريخية في جوار آمن كل مربع فيه يرفد الآخر بالصلات والتساكن ثم الانصهار، ثم انعطفت (غرباً) وقصدت الكلاكات تلوح لي من على البعد أضواء ود عجيب والعزوزاب والدباسين، ثم قصدت مقصدي الأخير عند تخوم (القادسية) فيما يحاد من الشرق الدخينات، وجدت في تلكم الأجزاء حراكاً من البشر والحياة لطالما شدني، مقامات من الدفء والأمان المستدام، بدا لي أهلنا وأحبابنا أكثر استمتاعاً مما يظن البعض ويعتقد، ضجيج صاخب وأفواج من العائدين إلى دورهم أو الخارجين لمباحث الرزق الحلال، شممت رائحة الحياة وتلمست عبير المثابرة فغاض كثير إحباط وتضجر في داخلي وطفقت أردد ..الحمد الله.
شعرت أن بهذه البلاد كثير خير يطمر تحت أنقاض الهدم المتعمد لثقة الجميع في ماضيهم القريب ومستقبلهم المنتظر، بدا لي أن ثمة فرص عظيمة لدعم تلك الساحات بمظان تقوية الحراك المجتمعي وبرامجه، ولو أن جهة أو شخصاً ما صنع الأندية والمسارح والبرامج لوجد حشوداً من المتابعين، عشرات الشباب وجدتهم مثل حالنا سابقاً يجلسون في الطرقات والزوايا يمضون الليل بالأنس الظريف، وشقاوات الصبا المعتادة، إن توقفت لتسفسرهم لم يجدوا حرجاً من نبيل مزاح معك وكريم عون يقدمونه لك وهم يستبشرون. لم أحس في كل تلك البقاع إلا بأن الحي والمنطقة، وحتى عندما وصلت إلى مقصدي حيث العزاء ورغم أن الأسرة المصابة حديثة عهد بالسكن والإقامة فقد كان لافتاً لي أن الجميع قد قاموا بالواجب حتى ما عرفت فصلاً بين أهل الفقيد والقادمين أمثالي عابرين أو قاصدين.
هذا بلد كريم وهذه أمة ذات كاريزما خاصة وطعم أخص، إن السودان يملك سادتي رأسمال نادر اسمه الإنسان، ما أعظم أن تكون سودانياً .. الحمد لله.