من وحي الأخبار

حكاية نزيل

تابعت على إذاعة ساهرون  برنامجاً استضاف شخصاً لم أوفق في التقاط اسمه، ولم ينتبه المذيع كثيراً لتعريف المستمعين بالضيف المبجل، وهو سلوك يتكرر كثيراً في الأعمال الإذاعية بمختلف المحطات، إذ ينصرف الحضور والضيوف للحديث بينما يكون على المستمع إحراز المتحدث من صوته أو نبرات حديثه، وهذا خطأ مهني مميت، إذ من الضروري بين الفينة والأخرى تذكير الجمهور بأن المتحدث هو فلان في المسألة كذا! والمهم أن البرنامج قدم تجربة شخص احترمتها فهو نزيل سابق بأحد السجون وخرج بعد مدة بالبراءة، فنذر كثيراً من وقته لخدمة رفاقه السابقين في السجن والذين تحدث عنهم وعن مجتمعهم بود وتقدير كبيرين.
بدا لي الرجل شجاعاً وفي قمة السمو وهو يجاهر بتجربته واسمه، وتحدث بإنسانية رفيعة عن فترة سجنه وامتدح من خلال التجربة منهج التعامل من إدارة السجون، وقدم جوانب مضيئة من عمل رجال الشرطة في ذلك السلك وعكس أبعاداً تربوية وأخلاقية ودينية من خلال معايشته للسجن من الداخل، طارحاً جملة مبادرات تتعلق بأحوال السجناء وصلت إلى حد ترتيب زواج جماعي. وهذا في تقديري قمة الفتح إذ يعني أن الحياة تتفتح أمام البعض ممن كانوا يظنون أن الحبس هو آخر مطاف سعيهم في الحياة الدنيا. وحقيقة فقد أعجبتني التجربة والمثال الذي كنت استمع إليه بعمق وإن كنت اعتقد أن المذيع أو فريق الإعداد كان يمكن أن يعكس الأمر بصورة أكبر وأكثر جاذبية وعرضاً لأبعاد القصة.
قمة الوفاء والثقة في النفس أن يعرض أحدهم بلا تمويه تجربة له قاسية وذات ظلال اجتماعية مثلما فعل هذا الشخص المحترم والذي هو بهذا إنما يثبت فعلاً أنه إنسان نظيف وظل مرفوع الرأس شامخ الكرامة، إذ اعتاد الناس في مثل هذه الأحوال على الاختفاء والتخفي أو في أحسن الأحوال إسقاط تلك الفترة من تاريخهم ومرات بالندم عليها لحد الانهيار، ومرات أخرى بإنكارها أو الاندفاع جراء آثارها إلى أوضاع أشد كارثية وقتامة وسوء منقلب في آخر الأمر، حينما تتحول تجربة العقوبة نفسها لتكون حافزاً ودافعاً للانغماس فيما عوقب به المدان أو الشخص المحكوم عليه وهي كلها اتجاهات ذهب عكسها النزيل الذي عرض تجربته إذاعياً.
بأمانة أحسست أن ثمة تجارب رائعة وعالم ليس كله شراً داخل السجون وكنت قد نوهت من قبل لجمال ورقي تجربة جلوس بعض النزلاء بالخرطوم والولايات لامتحانات الشهادة السودانية ومرحلة الأساس، وأن بعض آخر قد حاز على براءات أكاديمية عليا وهي يقضي فترة محكوميته وكلها مؤشرات من اللازم البحث خلفها والتواصي بها توثيقاً وعرضاً، فهذا في بعض جوانبه يمنح التجربة الوطنية في هذا المجال أنواطاً أخلاقية عالية وثمينة وقطعاً فإن هذا الجانب الايجابي الكبير لا يعني بالضرورة أن يتم التقاضي عن أي جوانب قصور ما ثبت ذلك، ولكن المقصد النهائي سيكون في تطوير كل التجربة والمضي بها للأمام.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية