(الميل أربعين)..!!
سيذكر التاريخ ويوثق أن يومي 17 و18 مارس من العام 1997 كانا لحظة سودانية فارقة، حينما نجح (168) بطلاً سودانياً بين جندي ومجاهد في صد تقدم القوات الأوغندية الداعمة للجيش الشعبي في مسيرها نحو جوبا أثناء ما تعارف عليه الناس يومها بخطة الأمطار الغزيرة، فدى أولئك الشباب وطنهم وقناعاتهم بأرواحهم وفجروا أنفسهم على رتل الدبابات الذي تجاوز الخمسة وعشرين دبابة وكسروا طغمة المهاجمين الذين كانوا على ثقة بدخول عاصمة الاستوائية يومها، وعادوا بغيظهم خائبين مخذولين لم ينالوا شيئاً ولم تطأ الحركة الشعبية وقياداتها الجنوبية والشمالية غالب عواصم الجنوب إلا بعد اتفاق السلام.
كانت تلك الأيام عصيبة على السودان، خاض فيها حربه وحده إلا من عون الله وسند شعبه، اشتعلت الحدود السودانية من نقطة الاقتران مع إريتريا إلى تخوم إثيوبيا إلى النيل الأزرق وما وراء يابوس إلى المبابان، واكتمل الطوق حتى غرب الاستوائية على الحدود مع زائير.. صمدت القوات المسلحة ومن خلفها جموع المجاهدين، ولم يكن بالسودان يومها نفط أو حزبية أو حوار وطني أو قضايا عالقة، لم يكن به إلا عزم الرجال وتجرد الجميع حتى صار الموت بشارة ومؤهلاً يتسابق الجميع للحصول عليه، كنا شهود عيان ورأينا كيف أن الوصول لبعض المواقع كانت تتم الاستعانة فيه بالواسطة والمعارف، كان الزمان فرق والناس فرق وإن بقي العدو هو ذاته قديماً والآن!
إن تلك المعركة الفاصلة التي عرف فيها الناس “علي عبد الفتاح” و”آدم ترايو” و”سكران الجنة”، وغاب عنهم عشرات غيرهم عرفهم عمر ورب عمر، أثبتت أن عزم السودانيين يتجلى في المواقيت الكبيرة. لقد كتب أولئك الشباب وسطروا ملحمة من المجد والوفاء وغيروا ميزان القوة، وأثبتوا أن بعض المعادلات معايرة احتسابها وقياسها لا يتم التحكم فيه بالظاهر لأن بحساب الظاهر كانت القوة المهاجمة هي الأقوى تسليحاً وكثافة للنيران، بمعنويات مستقرة وخطوط إمداد مفتوحة ومتصلة، بينما القوة السودانية الراكزة على الأرض تجمع للعزائم والبسالة ابتدع بعد لحظة الاشتباك الأولى قوانين المعركة وحدد مسارها الذي انتهى بانتصار وطني طُمر كالعادة بالإهمال والتجاهل إلا من يوم يتيم يقام سنوياً في الجامعة الإسلامية تكريماً للشهداء، يتبارى فيه الخطباء بدلق الوعود والثرثرات وبعض غناء حماسي وهز للأيادي، ثم ينفض سامر القوم.
لقد صحبنا أولئك الذين قبروا هناك عند حافة المنحنى من أولئك الرجال، عرفناهم وخبرناهم، كانوا أشجع منا وأكرم، فأكرمهم الله وعدنا نحن نعافس الدنيا ونلاحق حظوظنا فيها، وكلما رأيت بنفسي مفسدة أيقنت أن القدر الذي انتقاهم كان عميق الفرز والتمييز.. ولأننا صحبناهم أقول لو أن ببعض القيادة والشعب قليل وفاء لأولئك الذين مهروا تلك الساعة من حياة أمتنا بدمائهم وأرواحهم فإن المطلوب أن تعود ذات المآثر وأن تبعث نفس القضية فوالله ما انتصرنا في (الميل 40) إلا لأننا هنا ومن كان هناك، كنا يومها كما يجب أن نكون.