زمن فارق
المتجول في طرقات وشوارع العاصمة الخرطوم، في المركز أو المدن الفرعية منها “بحري” و”أم درمان” يلحظ وللمفارقة أن الأحياء والأسواق القريبة منها والحركة العامة تبدو أكثر نشاطاً منها في قلب العاصمة القومية نفسها! بعد الخامسة والنصف والسادسة تنتظم حركة السير بشارع القصر بشكل مريح ويتمدد الأمر لشارع البلدية والجامعة والسيد عبد الرحمن، وهكذا قس على كل الطرقات في وسط المدينة أو المربع الممتد بين جزيرة توتي ومدخل شارع بيويوكوان، إلى منطقة السوقين العربي والأفرنجي رغم أن التسمية قديمة لأبناء الجيل الحالي وبها خلط فقد تداخل السوق واختلط فلم يعد أحد يمايز حالة من الاسترخاء، والراحة، والتنفس الطبيعي تطال المدينة والمتعاملين معها في تلك الساعات بشراً وجمادات، والغريب أنه وفي الوقت ذاته ينتقل التكدس والضيق إلى أم درمان وبعض طرقات “بحري” وأطراف الخرطوم الجنوبية خاصة في منطقة “الشجرة” وبعض مداخل منطقة “جبرة”، اختبار عملي سيكتشف معه المرء أن الوصول من منطقة الثورات إلى قلب الخرطوم بعد السادسة مساء يكون متعسراً وغير ميسور لاختناق مروري مرهق بمناطق الشهداء ومدخل الطريق المار بجوار منزل الزعيم الأزهري، القادمون من الخرطوم في الأمسيات يخرجون من هناك بعد مسافات انتظار ومواقيت مطولة.
الشاهد في كل هذه الملاحظات إن المنظرين وصناع القرار المرتبط بإيجاد عاصمة عملية عليهم التفكير بصوت جاد ومسموع في دراسة إمكانية تفعيل فكرة (الدوامين)، ولعل تجربة الإعلاميين في هذا المجال وتحديداً الصحافيين تصلح لأن تكون مثالاً. المساء عادة يشهد جلوس الصحافيين لضبط إيقاع أداء صحفهم ورغم الإرهاق الذي يتبدى يومياً بشكل يكاد يقصم الأعمار، فإنه يخرج آخر الأمر خلاصات مفيدة.
أفضل الأوقات للانجاز والعمل الصحفي مردها إلى قلة الزيارات في المساء وجلسات الأشغال الشاقة للاستماع للأفكار أو مقابلة المفكرين ونوابغ هذه المهنة ناهيك عن بعض الزائرين الذين قد تبتلي بهم لفترة تتجاوز الأربع ساعات عليك فيها فقط التبسم في بلاهة وهز رأسك كعلامة للإيجاب ولو طار عن مكانه واستقر تحت قدم محدثك ليرحمك ويكف عنك أذى هذه العقوبة!
وعودة لموضوع الدوام الثاني فإن من شأنه إنعاش قلب العاصمة الخرطوم وأحياء أنشطة اقتصادية وخدمية تتعطل قبل مغيب الشمس لأن الحركة تقل بل وتنعدم تماماً في بعض الطرقات والزوايا وهذا وضع غير دقيق ويحتاج إلى معالجة وقبلها بالطبع مباحث مريحة حتى لا يكون الأمر حالة نشاط وقرار غير مدروس ومباغت ينتهي إلى حالة مثل تلك التي ارتبطت بقرار تقديم الزمن ساعة إبان عهد مستشارية الدكتور “عصام صديق”.
قرار أحيط حينها بشرح مطول، وتفصيل عريض، وحفلات تدشين ثم انتهى إلى جعل البلاد والعباد (زمنها فارق) بلا ضرورة ملحة وحتى بعد ثبات أن القرار لم يقدم أو يؤخر فقد تم السكوت عنه ولم ينجح أحد بنفس الحماسة في إرجاع عقارب الساعة لمجراها القديم.