مكبرات الصوت في الأسواق.. التلوث السمعي المفضي إلى الانتحار
تصم من فرطها الآذان
ـــ مواطن يناشد الوالي البقاء نصف الساعة في مكان تختلط فيه مكبرات الصوت
ـــ التلوث السمعي من أسباب ازدياد ضغط الدم وقرحة المعدة والصداع النصفي والأرق
ـــ طالبة: ما الذي يجبرني على شراء الصخب وهناك أماكن مهيأة ومريحة في التعامل
ــ بائع يشتكي من جيرانه وأن أصوات المكبرات تعلق بأذنه حتى بعد عودته المنزل
الخرطوم – أسماء علي
بعد انقضاء يوم من العمل بكل ما يحمله من رهق وضيق يكون الهم الأوحد بعدها هو كيفية الوصول إلى البيت لإناخة هذا الحمل الذي أثقل الجسد وشتت الفكر، وثمة أمور أخرى تفاقم من الحالة المزاجية كالمواصلات التي ينتظره زحامها في حال وجدت أو الوقوف لساعات في انتظارها، يواجه كل ذلك وهو يستشرف حال وصوله منزله كيما يلقي بكل ذلك العبء ويطرحه جانباً عند استرخائه، لكن قبيل ذلك وضمن زمرة المنغصات هناك ما يرفع الوتيرة ويثير الأعصاب حد الصراخ الذي يتمنى المستمع إطلاقه أسوة بجوقة الأصوات المختلطة الناجمة عن تسويق البضائع، ففي كل عشرة محلات تجارية أو (ترابيز) باعة متجولين، هناك تسعة مكبرات صوت تعلن عما يحويه المحل، فكيف للأذن أن تستقبل أكثر من خمسين صوتاً مختلفاً في لحظة واحدة دون أن تتأثر؟؟؟.
ضوضاء تأباها النفس
مع كل هذا الضجيج هل يترك للمواطن قليل بال رائق أو صبر يدخل به على أهل بيته، قطعاً فالإجابة معروفة لدى من يعانون ويعايشون هذه المشكلة عن كثب، (المجهر) قامت بجولة في عدة مواقف بالأسواق جمعت من خلالها توسلات المواطن للحكومة لإيقاف هذه الكارثة، أيضاً تعرفت على آراء بعض أصحاب مكبرات الصوت عن أثرها في زيادة معدل البيع.
الأستاذ “خالد عبد المحمود” وجدناه غاضباً من هذه الظاهرة التي وصفها بالمزعجة، وناشد المسؤولين لوقفها. أما صاحب مركز (التخفيضات لخدمات الموبايل) “الطيب مصطفى” قال إن ما يحدث ليس سوي ضوضاء تأباها النفس وتصرف غير مقبول وأضاف: لو كانت طريقة ناجحة لاعتمدتها وانضممت إلى فاعليها، لكن الأرزاق بيد الله الذي يسخر الأرزاق دونما هذه الطريقة.
ضجيج مكلف مادياً
وفي ناحية أخرى حيث محل لتحويل الرصيد بـ(ميدان جاكسون) اضطررنا لتكرار سؤالنا لأكثر من ثلاث مرات في محاولة لإسماع صاحب المحل “آدم جبريل” صوتنا نسبة للأصوات العالية التي تصدر من جيرانه، فتحدث بألم وحرقة عن ما تسببه له هذه الأصوات من توتر، وأنه كثيراً ما يضطر إلى التوسل لجيرانه حتى يخفضوا من هذه الأصوات المؤذية، وفي الوقت نفسه يتمكن من الاستماع لما يطلبه زبائنه لأن أي خطأ في الرقم يكلفه خسائر فادحة هو في غنى عن ذلك في ظل الظروف الصعبة على حد تعبيره.
وأضاف “جبريل” أن كثيراً من زبائنه والمارة يسدون آذانهم بكفيهم للتخفيف من حدة الأصوات وتقليل نسبة الإزعاج، وأردف أنه وحتى بعد عودته لبيته يشعر بأن الأصوات ما زالت تعلو فوق رأسه ويسمعها جيداً الأمر الذي يدخله في شك أن مرضاً ألم بأذنه، وزاد وهو يبدي أسفه: لو كان الأمر بيده لأوقف هذا العبث فوراً.
أجواء تفاقم المرض
وفي واحدة من المحلات وقفت الموظفة “ليلى عبد الحميد” وقد بدت على ملامحها آثار الضجر والتذمر، اقتربنا منها واستطلعناها فقالت: هذا إزعاج لا يحتمل سيما أن هذا مكان تجمع تجبرك الظروف أن تمر عبره يومياً بعد يوم شاق من العمل، ولفتت “ليلى” إلى أن هناك أصحاب أمراض مزمنة وآخرين في طريقهم للمشافي، فمثل هذه الأصوات والجو غير الصحي المؤذي للآذان والنفس قد يفاقم من حالتهم، وناشدت المحلية بالتدخل السريع لإنقاذ المواطن من هذا التوتر اليومي.
من جانبه يرى بائع ممن يستخدمون مكبرات الصوت أن أي شيء في هذا الزمان يحتاج إلى إعلان وأنها ــ أي المكبرات ــ تزيد من نسبة البيع، وعما تسببه من أذى للمارة قال إنه يقوم بخفض الصوت حتى لا يتأثر أحد. ووافقه الرأي “محمد إسماعيل” الذي قال إنهم يقومون بتسجيل الصوت بمبلغ (150) جنيهاً، وهذه طريقة ناجحة لاستقطاب الزبون.
قطعاً سنغير وجهتنا
أما طالبة الماجستير إدارة الأعمال “سارة” قالت على خلفية سؤالنا لها: بصفتي أدرس في مجال الأعمال فرأيي أنها من أسوأ طرق التسويق، لأن الزبون يحتاج إلى أجواء هادئة وآذان صاغية كيما يتمكن من التفاوض والشراء، إذاً فما الذي يضطره لوضع يديه في أذنه وهو يقوم بعملية الشراء في الوقت الذي تتوفر فيه متاجر أخرى بها كل سبل الراحة للزبون والتي تمكنه من شراء احتياجاته “برواقة” واستطردت: إن عملية المرور التي تفرضها علينا الوجهة ببعض الأماكن مثل (موقف جاكسون) بات من الأمور التي تدرج في زمرة الهموم، ومهما كان مقدار سعادتك الذي تخرج به من المنزل لابد أن يتحول إلى أسوأ حالاته.
وطالب المواطن “آدم” معتمد الخرطوم بالتكرم والحضور إلى (موقف جاكسون) كعينة وقضاء نصف الساعة به ليرى ماذا يمكن أن يفعل حيال ما يشاهده ويسمعه؟!
من سلبيات المجتمع المدني
وبعد انتهاء جولتنا استنتجنا أن هذه الضوضاء لابد أن تكون ذات آثار سالبة على صحة الإنسان، لذا طرقنا أبواب عيادة استشاري الطب النفسي والعصبي البروفيسور “علي بلدو” الذي يرى أن التلوث السمعي واحد من سلبيات المجتمع المدني الحديث وأن الإنسان له قدرة عالية على التواصل الخارجي ويكتسب هذا التواصل عن طريق حواسه الخمس والتي تحتل الأذن المرتبة الأولى بها، حيث إن الإنسان منذ ولادته يبدأ في التقاط الأصوات قبل أن يحس ويرى، لذا يقولون إن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، ويمضي دكتور “بلدو” في حديثه إلى أن الضوضاء الشديدة والإزعاج والأصوات المتداخلة بصورة غير منتظمة وغير تراتبية تؤدي إلى استثارة العصب السمعي وحدوث إفراز متزايد في مركز السمع في الدماغ والذي بدوره يؤدي إلى اضطرابات أخرى ينجم عنها اضطراب في الموصلات الكيميائية والبايوكربية مثل (الدوبانين) و(السرودونين) وغيرهما مما يؤدي إلى ارتفاع معدل (النرفزة) والغضب والتوتر، وبالتالي زيادة احتمال المشاجرات والاشتباكات اللفظية والبدنية والتي قد تودي إلى الأذى الجسيم أو الوفاء.
روشتة طبية
وفجر “بلدو” معلومة طبية أن الأصوات العالية والتلوث السمعي واحدة من أسباب ازدياد ضغط الدم وقرحة المعدة والصداع النصفي والأرق مما يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب النفسي والملل والذي بدوره يؤدي إلى الانتحار شنقاً بالأشجار أو القفز من على الجسور كما يحدث هذه الأيام. ولم ينس “بلدو” تقديم روشتة لقراء (المجهر) أن الصوت الجميل المدوذن يمكن أن يكون شفاءً ومريحاً للأعصاب ومهدئاً للتوتر، ولكن ما نراه من ازدياد في الضجيج والتلوث السمعي يشي إلى أننا موعودون بمجتمع أكثر توتراً وسقماً.