"أمبيكي" وسيط أم مراقب للحوار الوطني
حديث السبت
لماذا رسمت الأمم المتحدة صورة قاتمة للأوضاع في السودان!
أخيراً أصبح “ثامبو أمبيكي” شريكاً في الحوار الوطني الذي ولد من مخاض فشل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والأمم المتحدة وكل شعوب الأرض، في الوصول لتسوية تنهي النزاع في السودان .. وخلال آخر جولات التفاوض التي انهارت في مارس الماضي، دعا “ياسر سعيد عرمان” رئيس وفد الحركة الشعبية المفاوض لإشراك الاتحاد الأفريقي والوسيط “ثامبو أمبيكي” في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس “البشير”، وحينها جاء في صحيفة (المجهر السياسي) الصفحة الأولى )عرمان ومبارك الفاضل يطالبان بتدويل الحوار الوطني(. ولم يخفِ السيد “مبارك الفاضل” في حديثه للصحيفة سعيه الحثيث لإشراك “ثامبو أمبيكي” في الحوار الوطني بصفته مفوضاً من قبل الاتحاد الأفريقي لحل النزاع في السودان، وأن الحوار إن لم يحقق السلام ويوقف الحرب لا جدوى منه. وكعادتها غضبت الحكومة ورفضت وأقسمت بأن السماء أقرب إليها من الأرض، إن هي ارتضت بالسيد “أمبيكي” وسيطاً أو شريكاً في الحوار الوطني!! ومنذ مارس الماضي اختفى السيد “أمبيكي” من مسرح القضية السودانية وأخذ يبعث فقط بمساعده “عابدول” من حين لآخر للتأكيد فقط على أن المبادرة الخاصة بالتفاوض بين الحكومة وقطاع الشمال لم تمت بعد!! وترددت حينها معلومات عن توترات في العلاقة بين “أمبيكي” والخرطوم بلغت حد رفض السفارة السودانية في “نيروبي” منحه تأشيرة دخول للخرطوم.. ولكن الحكومة نفت تلك المزاعم .. وعاد الأسبوع الماضي الوسيط “أمبيكي” رئيس الآلية رفيعة المستوى، وعقد لقاءات برئيس وفد التفاوض البروفيسور “إبراهيم غندور” ثم لقاءات بقيادات أحزاب المعارضة.. وشخصيات أكاديمية وسياسية وصحافيين. وقال د.”غازي صلاح الدين العتباني” إنهم كمعارضة وضعوا أمام السيد “أمبيكي” مطالبهم المتمثلة في ضمانات من الاتحاد الأفريقي بتنفيذ (مخرجات) الحوار بين القوى السياسية والحكومة، وكذلك ضمانات من الاتحاد الأفريقي لتنفيذ أي (مخرجات) ينتهي إليها الحوار والمطالبة بإطلاق سراح رئيس حزب المؤتمر السوداني “إبراهيم الشيخ” وكذلك السيدة د.”مريم الصادق المهدي”. وقال “غازي” إنهم وجدوا تفهماً من السيد “أمبيكي” وتصريحات “غازي” الذي كان من أكثر قيادات الحكومة تشدداً ورفضاً للتدخل الأجنبي.. وثقة في نفسه وحكومته حينما كان ناطقاً باسمها ومفاوضاً نيابة عن “البشير”، تكشف عن (تقلب) المزاج وتبدد الثقة وضعف الثوابت والقناعات عند القيادات السودانية. و”غازي” الذي يطلب من”أمبيكي” اليوم المساعدة في إطلاق سراح “إبراهيم الشيخ”، ويمنح “أمبيكي” سكاً للتدخل في الشأن الوطني مجاناً .. هو “غازي صلاح الدين” الذي طرد رئيس أساقفة كنيسة “كانتربري” حينما طالب رئيس الأساقفة بأن لا تتدخل الحكومة في بعض لقاءاته مع أطراف سودانية معارضة.. وهو “غازي صلاح الدين” الذي هاجم المبعوث الأممي القادم من مملكة هولندا لكتابته في مدوناته الخاصة معلومات اعتبرها “غازي” حينذاك فيها مساس بالقوات المسلحة.. والتي هاجمها “إبراهيم الشيخ” في ندواته وبسبب ذلك تم اعتقاله في مدينة “النهود” و”غازي صلاح الدين” لم يطالب رئيسه “البشير” بإطلاق سراح “الشيخ” و”مريم المنصورة”، لكنه فعل ذلك أمام “أمبيكي”.. وموقف “غازي صلاح الدين” يتسق مع مواقف سياسيين كثر تتبدل قناعاتهم تبعاً لمواقعهم التي يتسنمونها .. وقد أثار تبدل المهندس “الطيب مصطفى” رئيس منبر السلام جدلاً في الساحة حينما تناسى الرجل ماضيه القريب والبعيد .. وأعلن تأييده جهراً لاتفاق “الصادق المهدي” والجبهة الثورية في “باريس” والذي يعتبر “ياسرعرمان” عرابه ومهندسه الأول.. ويحفظ أرشيف (الانتباهة) للطيب مصطفى أقوالاً عن “عرمان” والجبهة الثورية .. من (الرويبضة) إلى وصف “مالك عقار” و”عبد العزيز الحلو” (بالغربان) أي طائر الغرب.. كناية عن سواد بشرتهم.. وكأن “الطيب مصطفى” لم يسترق السمع في صباه أو في كهولته لطيب آخر من آل العباس حينما كتب قصيدة تغنى بها “الطيب عبد الله” (يا فتاتي). وكان “الطيب محمد سعيد العباسي” كثير الترحال بين مصر والسودان فأعجبته فتاة مصرية بيضاء البشرة ولكنها رفضته حينما نظرت لبشرته السوداء، ليقول لها إن هذا السواد يغمرني ليس لي فيه يا فتاة يد.. و”الطيب مصطفى” ليس له فضل شخصي في بياض لونه ولا يد لمالك عقار إن بات أسود اللون.. وتقلب المواقف وتأرجح السياسيين ما بين ثابت ومتغير جعل “الطيب مصطفى” الذي كان يبغض كل من دعا لمجرد حوار مع الجبهة الثورية وله مصطلح لا تنقصه (البذاءة)، ألا وهو (المنبطحين) يدمغ زملاء مهنته بالانبطاح وهاهي الأيام بين الناس دول، قد أصبح “الطيب مصطفى” مؤيداً للحوار مع الجبهة الثورية ومسانداً لاتفاق “باريس” مثلما أطلق “غازي صلاح الدين” الدعوة للمبعوث “أمبيكي” ليسهم في إطلاق سراح “إبراهيم الشيخ” و”مريم الصادق المهدي” .. ويلتقي “أمبيكي” أطيافاً من المجتمع العريض.. ولكن الحكومة تقول إن “أمبيكي” ما هو إلا مراقب فقط للحوار الوطني.. لا شريك ولا شأن له به .. لكن “أمبيكي” يقول إن الاتحاد الأفريقي قرر دعم ومساندة الحوار الوطني وأسند لأمبيكي مهمة دفع الحوار نحو تحقيق السلام في السودان؟؟
هل يستطيع السودانيون حل مشاكلهم بمعزل عن العالم الذي من حولهم؟؟ ولو كان الأمر كذلك لماذا أصبحت القضية السودانية تطوف من عاصمة لأخرى؟؟ وقد ضاق السودان بأهله.. فلجأ الآلاف إلى استراليا وأمريكا .. وحتى إسرائيل.. وأمين جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج يقول إن عدد المهاجرين خلال العام الحالي قد بلغ (50) ألف مهاجر.. ذلك ما استطاع جهاز الدولة رصده عبر نوافذ الهجرة من مطار الخرطوم والجوازات في الداخلية، هناك هجرة من خلال الحدود المفتوحة إلى تشاد والكاميرون وهجرة إلى ليبيا وحتى لجنوب السودان المضطرب.. ولا تملك جهة رسمية إحصاءً بعدد اللاجئين السودانيين في معسكرات البؤس والشقاء بدولة جنوب السودان!!
وإذا كان الحوار الوطني لن يبلغ حاملي السلاح الذين هم في خارج الحدود فما جدواه السياسية؟؟ وإذا بلغ هؤلاء وارتضوا المشاركة في الحوار فكيف لهم الدخول دون (ضامن) موثوق به!! والثقة أصلاً مفقودة بين الحكومة وحاملي السلاح.
“الزعتري” والصورة القاتمة
اختار منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة الأردني “علي الزعرتي” رسم صورة قاتمة جداً عن الأوضاع الإنسانية في السودان. وقال إن ربع سكان السودان (7) ملايين نسمة يحتاجون لمساعدات إنسانية في وقت بات فيه الحصول على التمويل صعباً خاصة العام الجاري 2014م، وأن احتياجات السودانيين تشمل المأكل والمأوى والملبس والرعاية الصحية.. وتعدت الصورة الشائهة السودان الشمالي إلى السودان الجنوبي حيث دعا “عدنان خان” ممثل برنامج الغذاء العالمي لصدور قرار من حكومة السودان، يسمح لبرنامج الغذاء العالمي بتقديم الإغاثة إلى سكان ولايات جونقلي وأعالي النيل والوحدة من الأراضي السودانية عبر النقل البري “الشاحنات” والنقل النهري والنقل الجوي من مطار الأبيض! في حالة الضرورة القصوى بين توقيع مذكرة تفاهم بين حكومتي “الخرطوم” و”جوبا”. واستثنى “علي الزعرتي” المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، لأنها لا تملك إحصائيات دقيقة عنهم .. ولكنهم أي مواطني الولايتين في حاجة إنسانية شديدة للغذاء.. بيد أن العمليات العسكرية التي تدور في تلك المناطق تجعل من المستحيل تقديم المساعدات الإنسانية قبل الوصول لوقف إطلاق نار لأغراض إنسانية.. وقدر المسؤول الأممي “الزعتري” الزيادة في عدد المحتاجين للغذاء في العام الحالي 2014م بنحو (56%) مقارنة بالعام الماضي .. أي أن البلاد تتدحرج للأسوأ. في وقت قال فيه “الزعتري” إن العاملين في الحقل الإنساني يتعرضون لهجمات وخطف من قبل الجماعات المسلحة خاصة في دارفور، مطالباً بتوفير الحماية الإنسانية لهم.. ولم ينفِ بل أكد “الزعتري” الأنباء التي ترددت عن تقرير سلمته الأمم المتحدة للوسيط “أمبيكي” الأسبوع الماضي عن خطورة الأوضاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وقد تعهد “أمبيكي” بالحديث مع الحكومة والمتمردين لإعادة التفاوض حول الوضع الإنساني وكيفية توصيل المساعدات الإنسانية. . ومن المفارقات في الأوضاع السودانية التي يصعب إيجاد تفسير لها ما جاء على لسان ممثلة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في السودان والتي قالت إن عدد اللاجئين من دولة جنوب السودان في السودان حوالي (93) ألف لاجئ عبروا الحدود للأراضي السودانية لتبلغ نسبتهم الثانية بعد الإريتريين في السودان، مقابل وجود (200) ألف لاجئ من السودان في جنوب السودان في أعالي النيل، رغم أن حكومة السودان لا تعتبر اللاجئين من دولة جنوب السودان لاجئين ويتمتعون بالحريات الأربع، ولكن في تعريف المفوضية هم لاجئون.
إذا كانت تلك هي صورة السودان المأساوية بعيون الأمم المتحدة فكيف لنا الادعاء بتحسن الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات النمو والمحافظة على سعر العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي.. فالصورة في البلاد كما في تقارير الحكومة تكذبها تقارير الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وهي تحظى بصدقية أعلى من حكومة بلادنا.. وإذا كان ربع سكان أي بلد ما هم يحتاجون إلى الغذاء والدواء والكساء، فإن تلك البلاد بالطبع لا تبدو مؤهلة لتنامي الاستثمار الأجنبي وزيادة دخل سكانها .. ويجد ما تقوله وكالات الأمم المتحدة آذاناً مفتوحة في الغرب والبلدان التي من حولنا .. ويتأثر السودانيون في المهجر سواء كانوا معارضين أو مساندين لحكومة بلادهم بالصور القاتمة شديدة الفظاعة عن أوضاع بلادهم. وحينما يبلغ عدد المتأثرين بالنزاعات القبلية والصراعات الجهوية والتمردات العسكرية ربع سكان أي بلد في الدنيا، فإن هذه البلاد تصبح مأزومة ولا تملك قرارها .. والأمم المتحدة حينما تحدث ممثلها “علي الزعتري” عن حاجة نحو (7) ملايين سوداني للغذاء والدواء والكساء.. صمت عن التعليم باعتباره واجب الدولة أولاً ويأتي التعليم بعد الغذاء والدواء والكساء بطبيعة الحال.. ويلوح”الزعتري” على قضية مهمة متمثلة في انشغال العالم بأزمات أخرى وانصرافه عن القضية السودانية، في إشارة للاهتمام الدولي باللاجئين السوريين بسبب الحرب، وهم أقل من عدد السودانيين الذين يبحثون عن الطعام والشراب في وطنهم.. وكذلك المتأثرون بالحرب العراقية العراقية.. والأزمة في أوكرانيا وحتى الأوضاع في أفريقيا الوسطى.. وكيف لدولة تنشد دخول المستثمرين من كل أرجاء الدنيا للاستفادة من فرص الزراعة والصناعة وربع سكانها في حاجة للغذاء والدواء ؟؟ وكيف للسودان أن يبادر بإعلان اقتصادي عن استعداده لسد حاجة الدول العربية من الحبوب الغذائية وهو غير قادرعلى إطعام مواطنيه.. والسودان حتى ولو امتلك تكنولوجيا الزراعة الحديثة لن يسمح له بسد حاجة المصريين والسعوديين من القمح، لأن ذلك على حساب المزارع الأمريكي والبرازيلي والروسي.
إذا كانت بعض نخب السودان ومثقفيه والناشطين في منظمات المجتمع المدني ينهضون بأعباء إغاثة وإعانة منكوبي العدوان الإسرائيلي الغاشم على “غزة”، وفي ذلك خير كثير.. ولكن أيهما أحق بالإغاثة ومسح الدموع (7) ملايين سوداني من بني جلدتنا أم الفلسطينيون في رام الله والخليل وبئر السبع وغزة، وقد توهم بعض القادة أن للسودان دوراً محورياً في تحرير القدس وقيادة الأمة العربية والإسلامية بل إغاثة الملهوفين حتى في هاييتي ويتغاضون عمدا ًوبقصر نظر عن حال وطنهم الذي يعيش اليوم في غيبوبة سريرية (كوما)، وواجب أهل السودان إنعاشه ورد الحياة إلى مفاصله بدلاً من التوهم بأننا أمة ستقود العرب لتحرير فلسطين.
ولن تنسى الذاكرة السودانية ما ورد في كتاب د.”منصور خالد” جنوب السودان في المخيلة العربية، حينما أورد حديث الزعيم الأفريقي “اميكار كايرال” رئيس دولة (غينيا بيساو) في اجتماع القمة الأفريقية التي انعقدت في الرباط عام 1973م. وكان “كايرال” يتحدث باسم كل حركات التحرر الأفريقية بجنوب أفريقيا وأنجولا وموزمبيق وزيمبابوي في جلسة خاصة أفردتها القمة لمناقشة اتفاق “أديس أبابا” الذي وقعته الحكومة مع متمردي جنوب السودان حركة الأنانيا (1) والذي حقق وحدة البلاد بعد سبعة عشر عاماً من الاحتراب. وكان من بين ما تداولته القمة اقتراح حول الدعم المعنوي والمادي الذي يجب أن تقدمه أفريقيا للسودان حتى يرسي قواعد وحدته الوليدة. وقال “كايرال” بعد خطاب شاعري وهو يجيد نظم الشعر بالبرتقالية (نوصي الرؤساء بإعفاء السودان لمدة (5) سنوات من التزاماته المادية ليس فقط نحو المنظمة الأفريقية بل وأيضاً لصندوق التحرير، لأن أكبر إسهام يقدمه السودان لتحرير أفريقيا ووحدتها هو صيانة وحدة أقوامه وسلامة أراضيه وكمال بنائه). ولكن من يقنع بعض منظماتنا الطلابية والصحية بأن السبعة ملايين من السودانيين الذين يتضورون جوعاً أحق بالتبرع عن أطفال غزة والخليل!والسبعة ملايين الذين دعت الأمم المتحدة لإغاثتهم جميعهم من التخوم التي تدور فيها الحرب المهلكة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.. ولم يتذوق سوداني واحد من السودان النيلي مرارة الجوع والفاقة والحرمان، لأن السودان النيلي مستقر أمنياً وسياسياً يتعلم أطفاله في مدارس حديثة وأطفال معسكرات البؤس والشقاء في “نيالا” و”الفاشر” تنزف دموعاً من الدم.. وفي ذلك خطر ماحق على وحدة ما تبقى من السودان الحالي .. وإذا كان الزعيم الباكستاني “محمد علي جناح” قد قال إن الاستعمار ينتهج سياسة (فرق تسد)، ولكن الصحيح أننا نفرق والاستعمار يسود. إذاً فالجوع والحرب أكبر مهدد لوحدة البلاد وليست القوى الأجنبية التي تتربص بنا ليل نهار.. وقد بدأت في الآونة الأخيرة أجهزة إعلامنا خاصة الحكومية تردد على لسان بعض الساسة الغافلين عما يقولون (الحفاظ على وحدة السودان) وبعض المبعوثين الأجانب يؤكدون دعمهم لوحدة السودان .. يناجون في سرهم وعلنهم وحدة السودان القديم أم ما تبقى من السودان الحالي مهدداً أيضاً في وحدته.