كتشاف مستوطنة بـ "العفاض" عمرها (70) ألف سنة!!
وصفت بأنها فريدة من نوعها
اهيئة الآثار: الموقع من أقدم مواقع العصر الحجري في أفريقيا
عضو بالهيئة: المنطقة كانت غنية بالحشائش ومناخها (سافنا) .. ولم تكن صحراء
“العفاض” كانت عاصمة لمملكة البديرية بعد الحروب التاريخية في منحنى النيل
تحقيق – أمل أبو أبو القاسم
الصدفة وحدها جعلت من “العفاض” بالولاية الشمالية منطقة أثرية، وذلك حسب بعض المواقع التي تم اكتشافها خلال الحفريات الجارية في شمال السودان.. حيث اكتشف علماء آثار بولنديون – من معهد علم الآثار والاثنولوجي في “بوزنان” – بقايا مستوطنة تشير التقديرات الزمنية إلى رجوعها لأكثر من (70.000) سنة!!
هذا الاكتشاف، وفقاً للباحثين، يتعارض مع الاعتقاد السابق بأن بناء المساكن الدائمة كان مرتبطاً مع ما يسمى بالهجرة الكبرى من أفريقيا واحتلال المناطق الباردة من أوروبا وآسيا.. فالموقع المعروف باسم (العفاض 23)، يؤكد قيام الإنسان في نهر النيل السوداني ببناء ما يمكن عدّه أقدم مساكن دائمة في التاريخ، ويشير هذا الدليل الجديد إلى مستوى أكثر تقدماً من التطور البشري والتكيف في أفريقيا خلال العصر الحجري القديم الأوسط.
{ حفريات متلاحقة
وقال الدكتور “أحمد حسين” في مدونته بأحد المواقع، إن اكتشافات “العفاض” تعدّ فريدة من نوعها بالنسبة لآثار العصر الحجري القديم الأوسط، حيث تم العثور على عدد قليل من آثار المباني الخشبية الأقدم من نوعها على الإطلاق، وحددت القرية بدقة في حفريات متلاحقة، وعثر على المواقع المرتبطة بها مثل موقع ورشة عمل الأدوات الحجرية، ومساحة لبقايا الحيوانات التي يتم اصطيادها، باستخدام تقنية (الأدوات الليفالوازية)، وشملت قائمة الحيوانات التي تم اصطيادها الثدييات البرية وأفراس النهر والفيلة والجاموس، وكذلك القرود الصغيرة وفئران القصب (القوارض الكبيرة التي سكنت الأراضي الرطبة).
وباستخدام تقنيات التأريخ المطلق تم تحديد الفترة الزمنية التي وجدت فيها هذه القرية، كما أثبتت أن مستوطنة العصر الحجري القديم الأوسط في “العفاض” سكنت في نهاية الفترة الرطبة، كما يتبين من البيانات البيئية، بما في ذلك قائمة من أنواع الحيوانات التي تم اصطيادها، وهي ظروف وجدت مرتين على الأقل في ذلك الوقت قبل حوالي (75) ألف سنة و(25) ألف سنة مضت. ويعدّ تأكيد هذه الفترة الزمنية من أولويات مشروع الحفريات في العفاض بقيادة البولندي “بيوتر اوسيبنسكي”.
{ الموقع حجري قديم
الحفريات والتنقيب في المنطقة تقوم به البعثة البولندية في شمال السودان، وترافقها وترعى الأمر الهيئة العامة للآثار، ومنها تحدثت لـ (المجهر) الأستاذة “هيام خالد محمد مدني” – عضو في البعثة العاملة – وقالت إن المسح في الولاية الشمالية بدأ منذ بداية الألفية الثانية وبلغ منطقة “العفاض” في العام 2012م، ووجد أن الموقع حجري قديم عمره (200) ألف سنة، ويعتبر من أقدم مواقع العصر الحجري في أفريقيا، وهو عبارة عن موقع استيطاني، حيث وجدت آثار كوخ من خشب يشبه (الراكوبة)، كما وجدت كمية من عظام القرود والغزلان على بعد خمسين متراً تقريباً شمالاً، كذلك آثار نار (عبارة عن مطبخ).. وعلى بعد كيلومترين في الشمال الشرقي وجدت كمية من شظايا الأحجار تصنع فيها الحجارة والأدوات الحجرية، ما يعني استيطان المكان، كما يرجح وجود مجرى ماء أو بحيرة قديمة.. لأنه وبحفرنا لعمق خمسين متراً – الحديث لـ”هيام” – وجدنا رملاً ناعماً يشبه ذلك الذي بالبحيرات.
{ اكتشاف مقابر أثرية
واستطردت عضو البعثة بأن المخلفات والعظام بالقول: ترجع إلى نوعية غير موجودة ولا تعيش في البيئة الحالية، مثل الغزلان وفرس البحر والجاموس، وكيما نتأكد من فرضية أنها مستنقع أو مجرى نهر وأن البيئة قد اختلفت، سافرنا إلى منطقة الدندر ووقفنا على نوعية الحيوانات بها، وتقريباً هي نفس الحيوانات في منطقة “العفاض”، وهذا دليل على أن المكان لم يكن صحراء بل غنياً بالحشائش والمنطقة مناخها (سافنا).
وقالت “هيام”: (بعد هذه الكشوفات صنفت العفاض بأنها منطقة أثرية، وما زال التنقيب فيها مستمراً وسيوالونه مطلع العام القادم، حيث اشتبه في مقابر أثرية بين الكيلو واحد والكيلو خمسة).
{ جغرافية وتاريخ العفاض
وعن ماهية “العفاض” استعانت (المجهر) بالدكتور “محمد قيلي مكاوي” وهو من المهتمين بتاريخ وتراث منطقة العفاض، فقال إنها من أكبر القرى بشمال السودان، ذلك لأنها تضم اثني عشر حياً يمثل كل منها قرية قائمة بذاتها.. (أبكر، ترقسي، أبو حصى، الكربة، بادنجر، علالمار، الحصاية، القلعة، أبو سعيد الصغير، أبو سعيد الكبير، النزيزة وجقرنارتي)، إضافة إلى (حلة العرب فوق) على امتداد العفاض، وقد كانوا عرباً رحّلاً، وبمرور الزمن استقروا في المنطقة الفاصلة بين هذه الأحياء، والعرب (فوق) التي تسمى بحوض العفاض، ووجدت فيها آثار عظام تماسيح وحيوانات مائية.
{ شواهد تاريخية
وتتبع “العفاض” لمحلية الدبة بالولاية الشمالية.. يحدها شرقاً (وادي الهو) بينها و”جلاس”.. وغرباً أرقي.. وجنوباً النيل.. وشمالاً (حوض العفاض)، وشمال الحوض تقع أراضي مشروع العفاض الزراعي الذي لا يزال يتلمس خطاه نحو الظهور إلى حيز الوجود.. وهو مساحة كبيرة تمتد خلف الجبال المحيطة بالمنطقة.. أما بعد أرض المشروع فليس لها حدود من الشمال، لأن الصحراء مفتوحة أمامها حتى الحدود المصرية.. وهي منطقة ضاربة بجذورها في التاريخ القديم.. إذ يقدر عمرها بسبعة آلاف سنة قبل الميلاد.. والشاهد على ذلك هو جبل (القرين) التاريخي الذي ما زال يقف شامخاً وشاهداً على عظمة تاريخ المنطقة.. وهو جبل عريق يحوي في داخله قصور ومعابد الحضارة النوبية القديمة والتاريخ منحوت بلغتهم على الجدران داخل القصر.
{ عواصم قديمة في الشمال
وقال “قيلي” إن منطقة (أبكر) كانت عاصمة لإحدى ممالك النوبة قبل مروي التي كانت عاصمة للسودان إبان عصور الممالك الأسرية، حيث إن الأسرة السادسة عشرة اتخذت من مروي عاصمة لكل مناطق نفوذها في جنوب مصر.. هذا في التاريخ القديم.. أما في التاريخ الأقدم.. فقد ذكرت بعض المراجع التاريخية أن تاريخها أقدم من ذلك بكثير.. وأشارت تلك المراجع إلى أن “أبراهام” (سيدنا إبراهيم عليه السلام) التقى النمروذ بن كنعان في منطقة “أبكر”.. وفي تلك المنطقة أُهديت له زوجته “آجر” – هاجر (النوبية) – وهي أم سيدنا “شمويل” (إسماعيل عليه السلام).. والله أعلم – والحديث لـ “قيلي” – وأياً كان ذلك التاريخ دقيقاً أم لا فكل شيء فيها يقول إنها قبل التاريخ بكثير.
وأردف محدثنا بأن العفاض أكرمها الله بعد ظهور الإسلام بأن كانت منارة للعلم، حيث كان الناس يقصدون مملكة الدفار للعلم من أقاصي البلاد.. وقد وهب السادة الركابية الأشراف حياتهم وإلى اليوم لخدمة الدين الحنيف بتعليم القرآن ونشر التعليم الديني.. ومن هناك كانت بداية (الخلاوي) ونار القرآن.. ثم أصبحت عاصمة لمملكة البديرية بعد الحروب التاريخية التي دارت في منحنى النيل وقسمت المنطقة جراء ذلك (شايقية، بديرية، ونوبة “دناقلة.. محس.. حلفاويين”).
{ أعلام بارزة في العفاض
برزت بعض الأسماء في منطقة العفاض كان لها القدح المعلى في عدد من المجالات، فرجال السياسة منهم المرحوم “إبراهيم محمد حمد” (زرقان)، المرحوم “حسن ساتي”، المرحوم “عوض أحمد عبد الجبار”، “طه علي البشير”، “عادل إبراهيم حمد”، ود. “بهاء الدين مكاوي” (عميد كلية التجارة بجامعة النيلين).. ورجال الدين: الخليفة “بابكر علي قدورة محمد الحسن الفكي”، “أحمد إمام”، “مكاوي إمام”، “أحمد كفر”، “مكاوي محمد قيلي”، “حسين محمد الشيخ”، “حسن محمد الشيخ”، “عبد الله حسن محمد الشيخ”، والفنانون: “ود صليليح”، “حسبو علي الشيخ”، “ياسين عبد العظيم حسن كتي”، “حيدر عبد العظيم”، “عثمان عبد العظيم”، “النعام الضكر”، “عثمان علي البشير” و”مرتضى العفاض”.
وورد في (طبقات ود ضيف الله) أن العفاض كانت تقع غرب النيل، ولكن تحول النيل من مجراه تدريجياً فأصبحت على الضفة الشرقية.