تيار الحب..!!
ما الذي يقود خُطى الإنسان.. هذه الخيوط المتشابكة من الأحداث لآلاف البشر والمتداخلة في فوضى تحسب من الاستحالة إيجاد طرف لها.. نشأت الفتاة المعززة المكرمة بين والدين أنجباها في كبر فكانت قبلة أمانيهما خاصة وأن والدها كان مميزاً بين جيله ووسط أهله, يحتل المكانة الكبيرة في عمله والمهابة بين قبيلته ومجتمعه، وكان الرجل بحق يستحق أن يُشار إليه بالبنان، فهو الكريم في غير منّ, العالم في تواضع جم، لا يمكن أن يتم حدث ما لم يكن هو رأسه وقلبه.. ووالدتها المرأة الحمامة تمشي بين النساء بقدمين وتطير عالية بحبها للبشر، كل البشر، والحب عطاء ووفاء وإيثار, فلم يكن اختيار اسم “حياة” لها مجرد صدفة, وهكذا كبرت “حياة” في ظل أسرتها الصغيرة الواسعة تحف بها عناية بلا حدود، وترعاها أيدٍ لا تعرف التواني.. ومثل الزهرة الندية كانت, قفزت على مراحل عمرها بخفة فراشة ملونة وكانت المساحة بينها والخطاب مسيرة طويلة من آمال والديها العراض في شريك حياتها، فبعدت خطى الكثيرين منهم ممن أحسوا بشاسع البعد بينها وبينهم, إلى أن كان الزواج الأسطورة من ابن عمها “مدثر”.. النسوة كبار السن في عائلتها ألبسنها (حجاب) يحميها من العين التي لم توحد.. أعمامها اطمأنوا إلى أن “حياة” ستواصل حياة والديها، وتوالت أفراح أسرتها الصغيرة العريضة.. لم تلتزم “حياة” بعمل حسبما خطط لها والداها, بل أعطت النشاط الاجتماعي الكثير من وقتها وعُرفت بأنها الرائدة المخلصة.. تدرّس في فصول محو الأمية, تسد النقص المالي فهي لا تتبرع بكتابة اسمها وأمامه رقم.. كلا.. إنها تؤسس ولا تعلن عن ذلك, ساعدها في ذلك وضع والدها المالي المميز، وساعدتها خطوات والدتها في مشاريع الأعمال الخيرية بين جيرانها وأهلها, فكانت “حياة” صورة مصغرة من والديها, وهكذا سارت الأيام والأسابيع والشهور وبعد عام واحد أنجبت “حياة” بكرها “ياسر” فأورقت شجرة العائلة نبتة صغيرة جديدة غضة.. لم تكن الولادة والتربية عملية شاقة لـ”حياة” فهنالك من يساعدها، لهذا فهي لم تنقطع كثيراً عن عطائها الاجتماعي, حتى بعد أن أنجبت ابنتها “نون”.. وهكذا مضت الحياة إلى أن شاءت الأقدار أن يتوفى “مدثر”.. لم يمرض البتة، ولم يكن يشكُ من علة، أيقظته ذات صباح، فليس من عادته أن ينام هكذا ولكن كانت أمامها حقيقة الموت التي لا تُنكر.. وهكذا فقدت “حياة” زوجها وهي لم تكمل ربع القرن من عمرها الغض.. ومن يومها تبدل حالها.. انقطعت عن مشاركاتها الاجتماعية الواسعة واحترم الجميع قرارها فصمتوا.. رفضت أن تُغادر منزلها وتعود أدراجها لمنزل والدها كما، لم يستطع والداها إغلاق دارهما للعيش معها.. وفردت “حياة” جناحيها.. لم تحلق بهما مثل والديها وإنما فردت جناحيها لتضع “ياسر” تحت الجناح الأيمن و”نون” تحت الجناح الأيسر.. وهكذا قررت أن تعيش لهما وبهما ولا شي سواهما البتة.. كان ما تركه زوجها يكفيها شر السؤال وقررت أن تستثمر تلك الأموال ونجحت في ذلك.. ومن على البعد كانت ترسل مساعداتها للأفراد الذين تحس بحاجتهم للمساعدة.. وكبر ولداها كما كبر والديها, وتوفيت أمها فقامت بواجبها كاملاً في رعاية والدها الذي كبر هو الآخر, فأغلقت دارها وعاشت مع والدها الذي كان جد معين لها.. وهكذا عاشت “حياة” مع “ياسر” و”نون”.. كان كل همها أن يتعلما، وقد كان النجاح حليفهما فحملا الدرجات العلمية المميزة.. تقدم لـ”نون” العديد من الخطاب لكن “حياة” كانت تغالي في مقاييس زوج ابنتها فكل من تقدم وبحق كان من خيرة الشباب, رفضت “حياة” طلبهم في هدوء حتى تأكد للجميع أن “حياة” حقيقة لا ترغب في تزويج “نون”.. و”نون” كانت تطيع أمها طاعة عمياء ولم تنتبه أن هذه الطاعة كانت على حساب شبابها حتى فاتها قطار الزواج، وبقدر ما ندمت “نون” كان هدوء أمها, التي مارست نفس الدور مع “ياسر” فكل الفتيات في نظر “حياة” لا يستحققن ابنها “ياسر”.. فهذه قصيرة.. وتلك دميمة.. والثالثة.. والعاشرة.. وعلى ذات الدرب سار “ياسر”، ولم تهدأ “حياة” إلى أن أبعدت الجميع عن طريق ابنيها، فبالرغم من أنها الأم الواعية والمتفتحة على المجتمع باتت منغلقة، فما عادت ترحب بضيوف “ياسر” ولا بصديقات “نون”.. وقد يسأل البعض: لماذا تابع “ياسر” و”نون” هذا السلوك الشاذ؟ قد يكون الولاء التام للأم التي هجرت شبابها واكتفت بتربية ولديها.. قد يكون الحب الأعمى الذي جعل “حياة” لا ترى سوى حمايتها هي شخصياً لولديها ولا تعترف بأي رباط آخر.. ولكن لماذا سكت الابنان عن حقهما الشرعي في الحياة.. فعلاً من الحب ما قتل.. كبرت “حياة”.. شاخت فلم تعد تلك النحلة التي تدير أمور بيتها، وانتبهت “نون” إلى أنها لا تدري الكثير عن أمور الدار وبات عليها أن تتسلم مقاليد الأسرة بعد الأم التي لم تهيئها لذلك الدور أبداً.. وهنا أدركت “نون” أنها قد أخطأت في حق نفسها وعاشت مرارة ما بعدها مرارة.. وجعلت تحدث نفسها لماذا تبعت قرارات أمي؟؟ لماذا؟؟ وتنظر لأخيها “ياسر” وتحس بأن هناك خيطاً من الأمل وقررت أن تغذي هذا الخيط.. أجل لا بد من إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقررت أن تختار لـ”ياسر” عروساً.. أجل يمكنه أن يتزوج وينقذ هذه الأسرة من الانقراض.. تردد ياسر كثيراً.. خاف أن يأتي بواحدة تحيل هدوء هذا البيت إلى جحيم هو في غنى عنه.. وحقيقة فقد أيقن “ياسر” بما اختارته الحاجة “حياة” أمه التي ذهب بها لأداء فريضة الحج فأقرت بأنها عافية منه ومن “نون” وأنها لا تود سوى سعادتهما، ويومها سأل “ياسر” أمه لماذا وقفت في طريق زواجهما.. فقالت بملء فيها (حماية لكما).. ولم يناقشها “ياسر”.. أيقن أنها مصرة على أن ما اختارته لهما هو الخير.. وأفلحت “نون” في الاختيار لشقيقها, إحدى طالباتها، وتم الزواج في هدوء بالطبع بحديث الناس عن فارق السن بينهما، ومن جديد اخضرت الحياة بداخل منزل “حياة” التي كانت تراقب زواج ابنها في هدوء, بل قل إن “حياة” أخيراً جداً قد فطنت أن تيار حبها الجارف ما عاد وحده هو الضمان والاطمئنان لحياة ابنيها.. وترجمت حياة هذا الاطمئنان دعوات خير لابنتها “نون” التي فتحت نوافذ جديدة للحياة ليدخل منها هواء متجدد.. وأنجبت “سلافة”.. قالت إنها “حيا”, بل هي “نون”.. هكذا قالت “حياة” الجدة التي سقت ابنيها من كأس حبها حتى كادا أن (يشرقا) من جرعات الحب الزائدة لولا انتباه “نون” ووقفتها الأخيرة للحيلولة دون هذا الارتواء البذخي.